السبت، 5 سبتمبر 2009

عمر التجاني

اللميــــن (1)
عمر التجاني
كانت حكايته أشبه بأسطورة، يتلوها كاهن عجوز من كتاب أصفر، اللمين ذلك الذي حتى مجيئه لبلدتنا كان محض صدفةٍ، فأعاد الحضور إليها مرات ومرات أُخرْ، فاضحى دائم الزيارات. ما الذي أعجبه في بلدتنا. وهي كواحدةٍ من مدن البلد الواسع اللائي يحتضرن تحت سنابك أسراب البعوض، وإنعدام الخدمات، وأحياناً كثيرة إنفراط الأمن. فلندع هذا الشجن الآني الآن ولنعد لحكاية صاحبنا اللمين. وسأروي لكم مقدما، كيف وصل اللمين الي بلدتنا القابعة بين الصحراء والنهر الخالد، يحدها شرقاً بيان سيدي الحسن (بيان ليس بيان الجماعة إياهم حتى لا تختلط المور ونبقى في التلتلة، خاصة ًوأن واحداً من أحفاد سيدي الحسن مغضوب عليه عند البعض) المهم ماعلينا نرجع لحكايتنا. ويحدُّ بربر غرباً النهر الخالد، وبينهما المزارع والحقول، التي نسميها نحن في بربر الجزيرة حتى أن نادي معينيفة أحد أحياء بربر سمي تيمناً بالجزيرة لأن حيّ معينيفة مجاور لتلك الجزيرة. وصاحبنا اللمين، من بلدة عاجةٍ بخلق الله، كنا نسمع عنها أنها مدينة الجمال ببلدنا. أما مدينة الجِمال، والأبل، فهي ريرة، كما كنّا نقرأ بمدرسة الكُتّاب. وتلك قصة قديمة أيام الله لي كوريا من شباب العليا، فقد كانت المشاعر ملتهبة إبان الحرب الكورية، تأييداً للشعب الكورى. أخبرني صلاح خوجلي، رغم أن جلبابه كان متسخاً، بأن أحد أحياء بورسودان أُطلق عليه كوريا، كذلك سمي الفصل الأول بمدرسة بربر الشمالية أولى كوريا عظمة والله.
كنت مرة مع صديقي عبد الحميد ودّ اب عمرة في عربته البوكس التايوتا، والتي ما فتئت تنقل الخلق بدون مقابل، ونحن في عزّ الضهر، والبلد دي صنّ. الصنّة ديك الما معاها حس ولا حركة، والدنيا حر يفلق الحجر. مو حر مؤمن يمرق فيه، كمان جايبا ليها سموم أسكت خليها ساكت. المهم يازول ما أطول عليكم نشوف لينا زولا غريب. فنحن نعرف كل أهل البلد. والزول الغريب ظاهر، نشوف الزول يضّارَى من ضُلّ لي ضُلّ، حاير به الدليل. فوقف ودّ أب عمرة امامه وسلّم عليه فردّ الرجل التحية كما ينبغي، فسأله ودّ اب عمرة:
ـ أها ياودّ العم علي وين إن الله هون في الحر ده؟
فكان رده:
ـ انا أصلاً جيت البلد دي كايس لي دواء ولقيت الأجزخانة مقفله.
ـ حليل أيام زمان بلدنا أكان فيها اجزخانه الدوا في وزارة الصحة ما في مان تلقى فيها، والناس أكانوا يجوها من (بلدن) بعيد.
فقال له ودّ اب عمرة:
ـ فعلا اسع تيه الأجزخانه قفلت، بتفتح بالمسا، فأسع يا اخينا أرواح علي البيوت، ترتاح شوية .....
فقاطعه الرجل، محاولاً الإعتذار والتنصل، بحجة إنه مشكلة ما في:
ـ بنتظر هنا في قهوة ولّلا مطعم لغاية ما المواعيد تجي شكرا ليكم كتير.
فردّ ودّ أب عمرة بحدة:
ـ شكرا شنو ومطعم شنو ما تخليني أكمل كلامي، أنا ذاتي صاحب مطعم. اسع تيه لا في مطعم فاتح ولا قهوة، هنا الناس بتروح تقيّل ديل شغالين بحكاية قيّلوا الشيطان ما بيقيّل. دحين يا أخينا سيب اللكلكة ويلا، ما تنتظر هنا ولا حاجة الدنيا إنقلبت؟ هيّا عليك الله.
وعندما أحسست أن الرجل ما زال متردداً قلت له بسرعةٍ وحزم:
ـ علي الطلاق أكان تركب، حرّم ما تقول حاجة.
وفتحت باب البوكس، فدلف الرجل الي داخل العربه. وفي البيت وضعنا للرجل (عنقريب) في ضلّ العصر، فإذا به يستغرق في سباتٍ عميقٍ، ورغم حرارة الطقس كان له شهيقاّ وزفيراً عاليين.
وعند العصرية ذهبنا لنتفرج على تمرين نادي الأمير، كنت الْحَظُ أن الرجل كان غير مكترثٍ بما يجري حوله، ويبدو أنه مشغول بأمرٍ آخر. وبعد التمرين ذهب ثلاثتنا الي الأجزخانه ، لشراء الدواء، قال لنا الصيدلي:
ـ الدوا ده اسع ما موجود شالوه ناس الصحة يفحصوه لأنهم كل مدة بي يجو يشيلوا الأدوية يفحصوها ومطابقتها للمواصفات وتاريخ صلاحيتها وهلم جرى ـ حليل أيام زمان ـ بكرة الصبح تجي تلقى الدوا جاهز .فأحسست بأن الرجل تضايق كثيراً فقلت له.
ـ إنت عارف أسع تية أصله ما في مواصلات لي أتبرة يا أخي ما عليك تبيت هنا وبكره تشيل دواك وتتوكل .
فقال لي:
ـ لا ما ممكن، أصلاً أنا كنت ناوي آخد تكس، واجي الصّباح. والله عربيتي واقفه في أتبرة، شاحنة، والمساعد حق العشا ماخليته ليه، وفي هذه اللحظة عرفنا أنه سائق لشاحنة، فنحن لم نسأله من قبل عن عمله ولا حتى عن إسمه، ورد عبد الحميد كالعادة بحدة:
ـ يااخينا تكس شنو أكان للتكس عربيتي دي بي توصلك لكن التلتله لزومه شنو.
ولم أدع عبد الحميد يواصل بلهجته تلك، وقررت حسم الموضوع بالصورة التي تناسب ذلك الرجل:
ـ اسمع يا ودّ العم عليّ الطلاق بالتلاتة ما تقول حاجة تنوم وبكرة تتوكل، مساعدك حيتصرف ما حيموت بالجوع.
توجهنا بعد ذلك الي مقهى ود اب خف وأضطررنا للجلوس داخل المقهى مع ودّ أب خفّ محل النيران ما مولعة والحر يفسخ والشاي ذاتو مولع نار، وعذراً سادتي فتلك لحظات لم تزل في ذاكرتي أضحت زاداً في سنين إغترابٍ بليد لا أعرف له نهاية معذرة سادتي مرة أخرى. ولكن كان لشاي ودّ أب خفّ مذاق يجعل تلك العذابات تتضاءل أمامه. فعرجنا بعدها إلي نادي الأمير. وفي طريقنا للنادي نمر بطابونة ابشر عجيب ودكانه ودكان صديق، حيث تصادف نفس الأشخاص، ونفس المسرح ونفس العبارات على مر السنين، ونحن أمام الدكان يمر محمود وهو ثمل بدرجة أقل حدة من علي الذي سيأتي آخر الليل وهو يردد بأعلى صوته:
ـ أزاي الليلة وبراي الليلة الحِرِقْ بي نار الكمائن ديله.
فيقف أمام الفرن ويصيح:
ـ هوي .. يالفرانة .. ادوني عيشة الناكلها أنا جيعان.
فيرد علية يسين من الداخل:
ـ العيش لصه عجين تعال الصاعة صبعة نديك عيشتين.
ـ سمح انا بجي باكر الصاعة صبعة ـ مقلدا صوت ياسين ـ انتو قايلني بنوم قسما جزما انا باكر إلا أجي.
عشر سنوات أو تزيد وهو يحنث بقسمه. ما علينا نرجع لحكاية اللمين. ونحن بدار النادي تفقدت عبد الحميد فوجدته قد غادر المكان فعرفت لماذا خرج فأنا اعرف عبد الحميد جيداً. وبعد قليل شاهدت عبد الحميد واقفاً بدار النادي وهو يتحدث مع شخص آخر بالخارج عرفت من صوته أنه كمال قسم الله الذي لا يحب الأندية وخاصةً نادي الأمير. فطلب عبد الحميد بإشارة منه راجياً منا الخروج. ولاحظ ذلك صلاح عوض الذي لا يشارك في تلك الملمات، وصاح بصوت عالٍ:
ـ الليلة رابِّـنها.
رد عليه ود أب عمرة بصوت خفيض (الله يرب .....) وتفوه كعادته بلفظٍ لا يجوز البوح به في هذا المقام، ولكن لو حدث أن رفعت الحرج وقلته لكم فستضحكون كما فعل عمر طلب الذي إسترق السمع وضحك بصوت عالٍ، أولاً نكاية بصلاح، ثانياً هو معجبٌ بأسلوب ودّ ابّ عمرة في السخرية. المهم ماعلينا نرجع تاني لحكاية اللمين، ويا جماعة ما أدسّ عليكم، ما في داعي للمدسّة. عندما خرج عبد الحميد، ذهب بحثاً عن (البتاع) ليحلو الأنس ويخرج صوت أجش آخر الليل ليالي الأنس لزاز بلحيل ورجوع السّاحة الخاتية رحيل. وعندما خرج جمعنا من النادى
ـ حمنمشي ديوان عمي، في جماعة منتطرين هناك.
كان في الإنتظار رهط من الأصدقاء كانت تلك الفئة تلتقي بمناسبةٍ ودون مناسبة فضل الله يتحدث عن الرهافه في اشعار ودّ المكي، والعمق عند سند. أما حسن عبد الحميد فكان دائب الحديث عن الطبقة العاملة والتحول الديمقراطي، وسعد عليه حكاية النكات، أما ودّ أبّ عمره فكانت أدواره ثلاثة أن يقوم يتجهيز المكان والمعدات اللازمة، والثانية أن يقوم بالتعليق على كل نكتةٍ بأنها بايخة والثالته هي أن يروي أكثر النكات بياخةً، ويضحك عليها الجميع من بياختها.
حتى تلك اللحظة كان صاحبنا اللمين يبدو عليه الوقار والسكينه. وفجأة دخل أبو عبيدة قادماً من القدواب مدعياً أنه جاء يبحث عن حامد، الذي علم أنه وصل الي أتبرة ولابد أنه وصل الي بربر، أو هو في الطريق اليها، وأن لديه أمراً هاماً يستوجب عليه أن يقابله، ولست على يقين أن كانت تلك حقيقة أم أنها مجرد زريعة ليجد مكاناً له في تلك اللمة.
دار الحديث أشتاتا، وكان هادئاً ممتعاً وعذباً، عندما يقرأ فضل الله أشعار ودّ المكي، وعلي قاسم، وسند، بصوته الإذاعي. وفي تلك الأثناء يكون عمر الفاروق قد ذهب بعيداً.. بعيدا ..وعندما يتقدم الليل الذي مازال طفلا يحبو، وتنتهي حالة الصّفو كما يحلو لأستاذ حمزة أن يسميها، يصمت فضل الله ليعلو صوت ودّ أبّ عمرة، بنكاته التي لا تُضّحِكُ أحدّاً سواي، مجاملة له فهو صديقي. وحينما يعجُّ المكان بالضحك فلا بدّ أن سعد تذكر نكتة.
نظرت الي صاحبنا اللمين فوجدته أصمت ما يكون الصمت، ويبدو أن كلمات فضل الله لا تسره، رغم أنها لا تفرح القلب فحسب بل أكثر ما تكون إمتاعاً. بالطّبع إن كان هذا دأب حديث فضل الله المرهف فكيف بكلام حسن عن الديالكتيك وكفاح الطبقة العاملة وهكذا، فهي ليست من إهتمامات صاحبنا اللمين البتة، لذا ظلّ صامتاً.
يبدو أن أبا عبيدة أحسّ بأن الرجل يحتاج لرفيق يتحدث اليه، أو هكذا خيّل إليّ، أو أن أبا عبيدة لا يحشر أنفه في تلك المناقشات والمشاحنات، إذ أن بعضاً من الجمع كانوا من معلميه بدور العلم. فتحول من مقعده، ليجلس بالقرب من صاحبنا اللمين. وقد بادره بالسؤال:
ـ أها يالضيف إنت من وين في اللهل؟
أجاب الضيف وهو الأسم الذي أطلق عليه في اليوم الأول لمجيئه والي يومنا هذا (وأيضاً كذلك إلى ما بعد) ناس عبد الحميد معاهم ضيف. تلك هي البداية، وليس الحدث مجئ الضيوف ولكن يجب أن يكون هناك ضيف ليحتفى به. تبدأ الأسئلة وتنتهي، لتؤكد أن هناك ضيف. الضيف وين؟ الضيف مشى القدواب. الضيف عدى الغرب. الضيف إتغدى مع حامد. وهكذا يتوارى الأسم الحقيقي ليبقى رمزاً لحدث يجب التنبه له والإحتفاء به. فإذا ماترك لإسمه الحقيقي ساعتها يضحي الأمر طبيعيا ًوعادياً ،فتعود الرتابة والصّنة.
أجاب الضيف:
ـ أنا من مدني الجزيرة، جبيت البلد دي كايس لي دوا، بكره الصبح بشيله وإتوكل، بلدكن دي تزهج المابزهج.
ـ إنت بلدنا اسع شفته فيها شنو، كدي يوم باكر ده قضّيه معانا، بعد بعد باكر إن الله هون سافر.
ـ لا و الله، انا عربيتي خليتها في أتبرة والمساعد، والله حتى حق العشا ما خليته ليه، قايل نفسي برجع في نفس اليوم، لكن الجماعة حلفوا علي إلا أِبيْت.
صمت أبو عبيدة لحظة، إذ أن الحديث يعتبر منتهيا ًفي تلك النقطة، وللمواصلة يجب أن يكون هنالك موضوعاً جديداً، أو آخر، وهذا مافعله أبو عبيدة.
ـ إنت سايق في الخط ده ولا جيت عابر؟
ـ لا أبدا .. أنا أصلاً شغال مدني القضارف بورسودان. جابني البلد دي الدوا، واحد إتسلّط علي قال لي الدوا ده ما بتلقاهو إلا في بربر، وفعلاً، حكمة الله في الخرطوم ما لقيته، لقيته في بربر، والله دوا للوالدة، كان ماكده والله ما أجري وراهو.
وصمت الضيف لحظةً وتابع حديثه:
ـ زمان أنا كنت شغال في الجنوب بسافر لغاية ليوبولدفيل، وبرازافيل*، وتنجانيقا* وبرازافيل* وسنترال دافريك*.حليل أيام زمان.
كل ذلك الحديث كان يدور بين أبي عبيدة والضيف دون أن يحسّ به الآخرون. وبعد برهة لمحت أبا عبيدة، فوجدته مصغياً ومنتبهاً بدرجةٍ عاليةٍ من الإنتباه. لم أكترث إذ شغلت عنه كما بقية الخلق الي حوار يدور بين علي الذي ما انفك يبرح آلته الموسيقية، محاولاً أن يجعل الناس أكثر إنصاتاً ًلما يقوم به من لعب ليشرح لهم الي أي مدى أنه أجاد وفهم فهما دقيقاً كيف يؤدي فنانه المفضّل زيدان ببراعة تامة أغنياته التي لا يفهمها إلا أقلة من الناس. الجمع يستمع لذلك الحوار الحاد، عالي النبرة بين علي من جهة، وبين أستاذ حسن عبد الحميد من جهة ثانية، وبينما نحن في ذاك الحال، إذا بأبي عبيدة، وعلى غير عادة منه ،يضحك بصوت عالٍ جداً، بلّ واضاف بصوتٍ يطغى علي كل ذلك الهرج.
ـ عليكم النبي أسمعوا الحكاية دي.
شدّ الخلق إنتباههم وأنظارهم نحو الضيف. وبذات النبرة أضاف أبو عبيدة:
ـ عليك النبي يالضيف، من الأول احكيها.
فنظر الضيف الي الجمع، ليتأكد من أن الجميع مصغٍ له، فإعتدل في جلسته، وبدأ يسرد في الحكاية، أي حكاية إنها بداية حكاينتا مع الضيف..
ومن وقتها صارت عبارة. قالوا الضيف قال هي الأكثر تداولاً بين الخلق. وصار الناس ينسجون الأقاصيص والحكايا على منواله، ويرون عنه روايت لم يفه بها البته. حتى أنه مرة قال عبده الذي يجيد وصف الأشياء والناس والصور بصورة جدّ مزهلة. حيث وصف مرة عمتي بت علّج وهي إمرأة مرهفة السمع، وصفها بأنها تسمع الشريط بلا يختوه في المسجل. قال عبده.
ـ قالوا الضيف قال آس الكوشتينة في جوبا فيه نقطتين.
كان الضيف دائب الحديث عن الجنوب وخاصة جوبا. والمشهود له أنه كان يعرف الجنوب، والدول المجاورة له معرفة تامةً. غير أنه كان يضفي عليها من واسع خياله رواياتٍ أختلط فيها الكثير من الخيال مع قليل من الحقيقة، فتضحي غير صادقةٍ وغير مصدّقةٍ، كحكايته الأولى، والتي ما أن إنتهى من سردها، لزم الجمع الصّمت، وكادوا يرجمونه حجارة من سجيل، أو شواظ من نارٍ ونحاس ٍولكنهم تذكروا أنه الضبف وإذا ما ذهب الضيف ذهبت المناسبة. هذا سبب، وسبب آخر هو أن طريقة سرد الضيف لحكايته فتحت آفاقاً لجبا، في طرائق صنع الحكايا، ونسجها وسردها وجذب الانتباه. رغم انه مشهودٌ لنا نحن ناس بربر بطول الباع في ذلك الضرب من المقالات، إلا أنه بذّنا جميعاً، الي أن تداركنا الموقف وجاءنا التجاني من الأبيض، فأخبرته بحكاية الضيف فقال لي:
ـ أنا بقدر عليه، بس لمان يجي كلموني.
:ـ نكلمك شنو ده البلد كلها بي تسمع بي خبر جيته.
الجميع كان يدرك أنها حكاياتٍ غريبةٍ، ولكنها مهمة جداً لقطع الوقت، ورغم إنها أحياناً تكون مملةً وتستخف بالعقل، وأن راويها يسردها وبإعتقادٍ جازم بأنه يقول ما يجب أن يصدّق، وهذا شرُّ ما فيها. ورغم كل هذا، والحقُّ يُقال أنها كانت ممتعة لسعة الخيال فيها.
جاء الضيف كعادته محدثاً جلبةّ وضجيجاً لا حصر لهما. إذ ربط لعربته الشاحنة بوري مميز، تسمع صوته وهو داخل للبلدة في الشُّرام ماراً بشارع الدكة الوسطاني ثم بالحبّالة، والمينيدرة، وإذا ما أطلّ على السّوق سمعت همساً يدور:
ـ البلد دخلها بلا. ودارت ثلاث أيام بغضّها وغضيضها، وهمّ الضيف بمغادرة البلدة الي عمله، ووهو واقفٌ على الأرض في إنتظار أن يتم المساعد عمله، أهم حاجة نضافة القزاز القدامي، والقربة تكون مليانه موية، وموية العربية تكون تامة في تلك اللحظة جاء حامد حاملا كرتونة زاد قائلا للضيف:
ـ شارع بورسودان أنا بعرفه كويس، دحين الوصية بالمهله، دي زوادتك، وبعدين ....
ـ يااخي مكلف نفسك مالك. حرّم ما بشيلة من هنا.
فرد حامد بحزم:
ـ حرّم أكان تشيله، داير تمشي تقول ناس بربر سفروني بال زواده.
فصمت الضيف ورفعها المساعد فوق الصندوق.
ـ قال المساعد يلا يا معلم كله تمام.
ـ أها ياجماعة نتوكل. نمشي ونجي بالسلامة نلقاكم سالمين.
وأعتلى عربته وأدر محركها، وصمت ليقرأ التعاويز التي تمنع العارض بالطريق. وفي تلك اللحظة ظهر التجاني قائلاً:
ـ الضيف مسافر ولا شنو، تمشي وتجي راجع بالسلامة والله يعدل طريقك، لكن داير أقولك قصة صغيرة.
تعرف يالضيف أنا ومعاي معتصم ودّ عمي شيبو مرة كنا مسافرين الأبيض بي طريق بارة أم درمان، نحن راكبين فوق اللوري ورا، يقوم اللوري يميل شديد لامن قرب للواطة قام معتصم ودّ شبيو كتب تذكار من معتصم ودّ شيبو ولمان الدور وصلني كتبت بعده وأيضاً من أخيه التجاني. وبعد تلاتة يوم يجي سيف الإسلام ومعاهو صلاح خوجلي الزول الجلابيته وسخانة مليانه ملاح قرع، راكبين لوري ماشين الأبيض، اللوري في نفس الحتة ميل شديد لامن قرّب للواطة يقوم سيف الإسلام يقرا الكتابة الكتبناها نحن، وقام كتب بعدها وكمان من سيف الإسلام واخيه صلاح خوجلي.
يبدو أن اللمين فهم المغزى تماماً من الحكاية. فأدرك ماوراء الأكمة، ثم قال:
ـ عاد النقول لك يالتجاني أنا علي الطلاق من بيتي، بكضب لي خمس وتلاتين سنة جنس دي ما خطرت في بالي. وتاني حرّم يا كراعي ما تجي بربر. اها ودعناكم الله. وكانت آخر جملة قالها، وأول جملة يقولها صادقاً. وأدار محرك عربته وغادر. ولم نعد نسمع بأخباره مطلقاً ولكنا دوماً نذكره بأنه رجل فائق المقدرة في صناعة القصة، فنذكر قصصه، والتي سأروي لكم منها ما أحسست بأنه أقلّ الأنواع وزناً، وأخّفها ظلاً، وأكثرها قابلية للتصديق. وسأبدأ معكم من أول حكاية فتحت لنا آفاقه الرحبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق