الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

صباح سنهوري


العزلة
صباح سنهوري


.

القصة الفائزة بجائزة الطيب صالح

الجو حار، حار جداً وخانق. لا يوجد شيء سوى هذه الطاولة التي أنام عليها، هنالك أربعة أبواب لهذه الصالة واثنتا عشرة نافذة. هذه الصالة على شكل مستطيل، يوجد في كل ضلع باب، في الضلعان القصيران توجد نافذتان بحيث يكون الباب بينهما، وفي الضلعان الطويلان توجد نافذتان يسار الباب واثنتان عن يمينه.
البلدة خالية، تماماً، إلا من صوت أفكاري الشاردة مني حتّى الغضب. وحدي أنا في الصالة، وحدي أنا على الطاولة، وحدي أنا في البلدة، وحدي أنا من لا يشتهيه الموت. متمدِّدٌ على الطاولة الخشبية التي أوشكت خلايا نخاعي من البناء عليها ومن ثمّ الاندماج. النهوض يتطلب مني جهداً جباراً، فهو يشبه إلى حدٍّ كبير انسلاخ الثعبان عن جلده. أحاول جاهداً النهوض. (والآن، تُرَى أين وضعت الصندوق؟!. إنه بالخارج حتماً). خرجت من الباب الذي يقع في إحدى الضلعان الطويلان فالطاولة تقع في منتصف الصالة، لذا، فكون الخروج من أحد البابين اللذين في الضلعين القصيرين سيضاعف مقدار الجهد الذي أبذله.
في الخارج، كان الجوّ حاراً كما في الداخل تماماً، ها هو الصندوق قابعٌ بالقرب من الباب؛ لست أدري من أين أتى، كل الذي أعلمه أنه، منذ أن بدأت ألملم أطرافي، رأيت هذا الصندوق، وهو يحوي زجاجات من الخمر المعتّق. لم يعد هذا الخمر يجدى نفعاً، فلا شيء أصبح يؤثر على عقلي، كنت أعتقد في قرارة نفسي أنه ربما بعض الخمر تَفِي بالغرض، ربما أتذكر شيئاً، أي شيء. ربما أتذكر على الأقل من أنا؟، ما اسمي؟، من أين أتيت؟، ما هذا المكان؟، أين ذهب البقيِّة؟، ومن هم البقية؟.
الجو حار، حار جداً وخانق، وكأن هذه البقعة هي المكان الوحيد الذي وُظِّفَت الشمس لأجله، وفي هذا المكان وصل الهواء إلى سنّ التقاعد، وربما لَقِيَ حتفه. تناولت زجاجة خمرٍ وبدأت بالشُرْب، رميت الزجاجة جانباً. مازلت بكامل وعيي. خطرت ببالي فكرة، وهي أن أطوف بهذه البلدة، بدأت في السير على الطريق، ترى أين البشر؟. لكم أتمنى الآن أن يظهر أمامي كائنٌ من كان؛ إنساناً، حيواناً، سواء كان ذلك الحيوان مُستَأنَسَاً أو خَطِرَاً. لماذا أنا وحدي هنا؟.
البلدة هادئة، ساكنة، لا أسمع أيّ صوت سوى صوت دقات قلبي. دخلت إلى أحد المنازل، كان الباب غير موصد من الداخل ولذا كان من السهل عليَّ الدخول. المنزل مظلم قليلاً ولكن تسهل فيه الرؤية، ياله من أثاث جميل ومرتَّب. لمحت بعض الصور التذكارية على الحائط، يبدو أنها لأفراد هذه المنزل. ياله من صبي جميل، أهؤلاء والداه؟، يبدو ذلك. ترى أين هم الآن؟!. فجأة أحسست بقشعريرةٍ باردةٍ تسرى في كامل جسدي، عندها فقط قررت الخروج من هذا المنزل.
واصلت سيري في الطريق، المنازل على جانبي الطريق، تبدو هادئة تماماً. ما هذا الشيء هناك؟ إنها طاحونة هوائية، ياللسخرية!!، طاحونة هوائية؟!، يبدو أنهم بنوها قبل أن يتقاعد الهواء. إذن فقد كان الهواء مُوَظَّفاً هنا!. ترى هل يوجد أحد بداخلها؟. دلفت إلى الداخل، أرى عدداً من بيوت العنكبوت هنا، حتى بيوت العنكبوت تبدو مهجورة. ولكن أين العنكبوت؟! تَلَفَّتُّ حولي، يوجد العديد من جوالات الدقيق، وهذا الوعاء مليء بحبوب الغلال التي لم تُطحَن بعد، لا بد أن يوجد أحد هنا. أجل، فمن غير المعقول ألا يوجد بشر، واحد على الأقل، حسناً، عنكبوت واحد فقط، لا بأس يكفيني جرذ واحد، أرجوك، حسناً، سأنادي بأعلى صوتي علَّ بعضهم يستيقظ، لن أكون طماعاً يكفيني أن أقول (علّه) يستقيظ. حسنٌ سأنادي.. يإلهي؟ كيف أنادي؟ لماذا لا تخرج الكلمات من فمي؟!. لا بأس فلتخرج الحروف متقطعة، أوه لا، تُرَى بأيةِ لغةٍ أتحدث؟. أدرك تماماً أنني أجيد الكلام، فأنا أفكر دائماً بهذه اللغة، ولكني أتحدث بها إلى نفسي، من داخلي، وليس من فمي. لم أتحدث إلى أحد منذ فترة طويلة ولا أتحدث إلى نفسي بصوتٍ مسموع، هل هذا لأنني أخاف من أن أوصف بالجنون أم لأنني أخاف من أن يسمع أسراري أحد؟!. ليتهم يصفونني بالجنون، فقط يظهروا أمامي ويصفوني بالجنون، عندها سأبلغ قمة السعادة.
لو كنت تذكرت أن الناس تتجمهر، لتنصَّت إلى من يُحَدِّث نفسه ليتناقلوا حديثه فيما بينهم، لتحدثت بكل لغات الكون وبأعلى درجةٍ أملكها من الصوت، ربما كل هذه الأشياء تجذب البشر، ولكن لا جدوى من ذلك الآن، فقد فقدت أملي الأخير. فقدت صوتي للأبد. خسارة. مؤكد أن هذه الأشياء تجذب البشر كما يجذب العسل النمل. ماذا؟! هل ذكرت كلمة عسل؟!، أجل، أذكر أنني رأيت عسلاً في ذلك المنزل الذي دخلته، أجل؛ العسل، النمل، وجدتها، أجل وجدتها. خرجت من تلك الطاحونة الهوائية وجريت بسرعة إلى حيث المنزل، فتحت الباب وأسرعت إلى الداخل. أحاول التذكر: أين رأيته، أجل، هاهوذا.
أخذت العسل وخرجت به إلى الطريق، إنها مُحْكَمَةُ القفل، ولكنها لن تكون صعبة على إنسان قد أوشك على فقدان الأمل وظهر له الأمل فجأة من بعيد. بالطبع أنا الآن أقوى من جبل، ها هي العلبة مفتوحة بين يدي. تذوقته، إنه جيد لا بأس به، فلا زال يحتفظ بطعم العسل. أمسكت بالعلبة، بدأت بالسير على الطريق وأنا ممسكٌ بالعلبة والعسل يتدفقُ منها. أوشك العسل على النفاد. جيد، هذه الرقعة تكفي. انتهى العسل، لا بأس، فهذا يكفي. والآن سأنتظر النمل، أرجو ألا يطول الإنتظار. لا، لن يطول انتظاري فأنا أعلم جيداً أن تلك النملة النحيلة، والتي تمتلك حاسة الشم الأقوى في مملكتهم، ستشتمّ رائحة العسل، وستخبر جميع أفراد المملكة بذلك، وما هي إلاّ سويعات حتى أرى النّمل؛ عندها فقط سأبلغ قمَّة السعادة وأنا أستمتع برؤية ذلك الكائن الحيّ، الصغير، الجميل. أخيراً يمكنني أن أرى شيئاً تدبّ الحياة في أوصاله، سأجلس وأنتظر. لقد أوشكت الشمس على المغيب ولم تظهر تلك الكائنات. لا بأس، سأنتظر، لا يوجد ما يمكن أن أفعله غير الانتظار.

لا زلت أنتظر، سيأتي، أعلم جيّداً أن النمل لا يمكنه مقاومة العسل، لذا سأتظر.

لقد طال انتظاري؛ فها هي الشمس قد بدأت تُزاولُ عملَها اليوميّ. لن أنتظر مجدّداً، سأعود إلى الطاولة، لقد اشتقت إليها كثيراً، ليس من عادتي أن أقضي الليل بعيداً عنها، حتّى أنني أُحس، الآن، بتقرّحاتٍ على ظهري تُشبه، تماماً، تلك الجروح والتقرّحات التي تُصيبُ من بُتِرَت أيديهم أو سيقانهم عن بقيّة الجسد. لم أضلّ طريق عودتي إلى الصالة. أخيراً طاولتي. أحاول جاهداً احتضانها. أخذت أحتضنها من كلّ جهةٍ من جهاتها الأربع، أقبّلها، مارست نشاطي الوحيد: التمدّد عليها. آه، أخيراً، أحسُّ بنوعٍ من السكينة والطمأنينة، حتّى أنني لم أعد اشعر بتلك الجروح والتقرّحات.

متمدّدٌ أنا على الطاولة، أمارس موهبتي: أحلامي؛ يبدو أن انتظاري للكائنات الحيّة وتشوقي لرؤيتها قد أثَّر عليها. أحلم، وأنا أحدّق في السقف بشرود، دون انتباهٍ لتفاصيله، أحلم أنني كائن أخضر صغير، حقير، تافه، لزج، بدائي، وحيد الخلية. أشعر بأن عينان كبيرتان هلاميّتان مقززتان أحملق بهما يمنة ويسرى دون أن ألتفت، أغمضهما تارةً وأفتحهما أخرى بترتيب منتظم. ما ذاك الثقب؟، إنه على السقف!، يعني ذلك أن حلمي قد انتهى، أرجو أن لا يعاودني ثانيةً، لأنني، حينها، شعرت بشعور سخيف وغريب.

ترى، هل مرّت الحرب من هنا؟. إذا مرّت، ولقي الجميع حتفهم، لما لم ألقَ حتفي أيضاً؟. إن حدث ذلك أين الجثث؟. وإن مرّ وقت طويل على ذلك، أين بقايا عظامهم؟. سَرَت تلك القشعريرة الباردة في جسدي مرة أخرى، لا أخفي عليكم سراً أنني، عندما تشتدّ الحرارة بصورةٍ تُثير غضبي، كنت أجترّ مثل هذه الأسئلة الجالبة، طبعاً، لتلك القشعريرة الباردة التي تزيل معها قَدْرَاً جليلاً من الحرارة وتلطّف الجوّ. كنت أستمتع بذلك وأعتبر نفسي ذكيّاً، فقد كانت الحيلة الوحيدة التي أُجيدها. ولكن، بعد تكرارها، أظنني قد أَتْلَفتُ جزءً من خلايا المخ، خاصّتي، وأفلتت تلك الحيلة من لجامها، ولم أعد أستطيع التحكّم بها، فأصبحت تأتي عندما يتملّكني ذلك الشعور الغريب بالغرابة.

مجدداً، وحدي في الصالة، على الطاولة، في البلدة، وحدي من لا يشتهيه الموت. متمدّدٌ على الطاولة التي أوشكت خلايا نخاعي على البناء عليها، ومن ثم الاندماج.

وصلت في قرارة نفسي إلى: بما أنه لا يوجد من يؤانسني في هذه البلدة، إذاً لا بدّ من إيجاد شريك بكافّة الطُرق والوسائل، فوصلت إلى أن أنقسم انقساماً خياليَّاً إلى كائنين؛ أحدهما (أنا) والآخر (هو). إنه يشبه صورتي المنعكسة على زجاجات الخمر المعتّق. حسنٌ أيها الكائن الوسيم، ماذا سأدعوك؟، ليست لديّ أدنى فكرة عن الأسماء الآن، ولكن ما رأيك بأن أكون (أنا) وتكون أنتَ (هُوَ)؟. ألمح تعابير الغضب على قسمات وجهه.
-لمَ لا أكون (أنا) وأنت (هو)؟.
-لأنني الأصل يا حبيبي.
-بل أنا الأصل، وبدوني لن تستطيع العيش هنا.
-حسنٌ، لا تغضب أيها الكائن، أنا أكثر منك تجربةً، ومعرفةً؛ أعرف جميع معاني الكآبة، الخوف، الرعب والغرابة، لذا لا تهمني توافه الأمور. لا بأس، سأتنازل لك، سأكون (هو)، وستكون (أنا). هل أنت سعيد الآن؟.
-لم نتفق على كل شيءٍ بعد.
-ماذا تقصد؟.
-أريد، أولاً، تلك الزجاجات التي تحوي الخمر المعتّق.
-ماذا؟!.
-وإلا لن تجدني ثانيةً، وستعاني من الوحدة.
-أوف، هل هذا ابتزاز أم ماذا؟. لا بأس. لك ذلك.
-وأخيراً يا عزيزي، إبحث لك عن مكانٍ آخر لتنام فيه غير الطاولة، لأنني سأنام عليها من الآن فصاعداً.
-إلا هذا!!. لن تناله ولا حتى بأحلامك النهاريّة، لن أتخلى عن طاولتي، لن أتخلى عن جزءٍ منّي، ألا تفهم هذا؟.
-ولكنك تخلّيت بالفعل عندما أوجدتني، لذا لا أظنّ أنه من الصعب عليك التخلّي عن الطاولة. ثم أنك تتخلّى عنها لجزءٍ منك!.
-لاااااااا، أنت لست جزءً مني، الطاولة هي جزء مني؛ أمي وأبي وأهلي والبقيّة. الطاولة أنا. أنت لست سوى وهم، لست سوى صورتي المنعكسة من على زجاجات الخمر المعتّق.

لقد فاض بي حقّاً، رميته بكلّ زجاجات الخمر على وجهه وأنا أصرخ: (إذهب أيها الكائن الهلامي الغريب، إذهب إلى الجحيم. هيا، هيا). اختفى ذلك الكائن الذي يُشبه صورتي، نظرت إلى الطاولة بحنان، أسرعت، استلقيت عليها. (لا تخافي، لن يأخذني منك شيء، حتى الموت؛ أنت تعلمين أنني لا أنزلق في أمعائه، وتعجز انزيماته عن هضمي. غريبةٌ أنت مثلي في هذا المكان، وأنا أحبّك.
لأول مرة أغطّ في نومٍ عميق، حلمت بأنني ذلك الشاب الذي في الأسطورة. كان يتمدّد قرب البحر ويتأمل صورته المنعكسة على سطحه. أما أنا، فقد كنت مدّداً على الطاولة، بالقرب من البحر، أتأمل صورتنا _أنا والطاولة_ المنعكسة على سطحه. الشاب عاقبته الآلهة بأن حوَّلته إلى زهرة في ذات مكانه، نحن حوّلتنا إلى زهرتين جميلتين.
صحوت من النوم، ظللت أتطلع إلى السقف بمزاج جيّد، رويداً رويداً بدأ ذلك المزاج الرائق بالاضمحلال، فما زلت وحدي في الصالة، على الطاولة، في البلدة، وحدي من لا يشتهيه الموت. متمدّدٌ أنا على الطاولة الخشبة التي أوشكت خلايا نخاعي من البناء عليها، ومن ثم الاندماج.
أحاول الرجوع إلى ذاك المزاج الرائق الذي يحمل نكهة الـ.. لست أدري!، أحاول، يبدو أنني فقدته. حسنٌ لا زلت أدّخر بعضاً من أحلامي. لا. لا أريد أن أكون ذلك الكائن. يبدو أنه ما من خيارٍ آخر. حسن لا بأس. أنا الآن كائن أخضر، صغير، حقير، تافه، لزج، بدائي، وحيد الخليّة. لديّ عينان كبيرتان هلاميتان مقززتان أحملق بهما يمنة ويسرى دون أن التفت. أغمضهما تارة، وأفتحهما أخرى، بترتيب منتظم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق