الثلاثاء، 4 يوليو 2017

بشري الفاضل



حكاية البنت التي طارت عصافيرها
د. بشرى الفاضل
كنت مدية وسط حشد غريب من البشر. لا تجمعهم سلطة خضروات- شحاذين وجزارين وحرامية، قافزين ومادحين، وجنود غلاظ؛ رائحين وغادين، مترهلين، وعجاف، باعة متجولين ومتشردين وسبابة، منتظري مواصلات وجلابة، متأنقين ومتأففين. ومن بين كل هؤلاء ممثلون منتخبون يطاردون النساء بالعيون والأيدي والأجساد، ومن لم تسعفه الحركة يطارد بالاستجابة المباشرة الحسية، أو حلم اليقظة.

كنت مدية حادة السنان تشق طريقها وسط الزحام فتحدث ألماً مفاجئاً في كتف هذا مشفوعاً ) بمعليش( وجرحاً في قدم هذه متبوعاً ) بسوري( ولكمة في وجه تلك موصولة) بمتأسف( وكنت من فرط سرحاني لا أنتظر رداً على اعتذاري..
كان النهار أخضر لا كعادة أيام الصيف، وكنت ملتوياً بالبهجة كعمامة إعرابي يزور المدينة للمرة الثانية، لا العاملات سعيدات مثلي ولا ربات البيوت. أنا ابن المحطة الوسطى العنكبوتي الجيب المشرئب عنقاً لحادث حركة أو مظاهرة نشال، المستيقظ منزولاً، المتضور جوعاً الباحث في خشم البقرة عن عمل. شغبي مكتوم. ومظلوم ابن مظلوم ومع ذلك سعيد. هل ينتزع الأوغاد سعادتي؟؟ هيهات. وهكذا كنت لا أنوي التجول فتجولت والناس مكدسة بطيخ بشري. كل كوم ينتظر وسيلة مواصلات. دنوت من أحد الأكوام وأخرجت أدوات إنتظاري. أخرجت أولاً كوعي، ثم راحة يدي فعاونا رجلي في حمل الجسد المستهلك يومياً والمتعب على مدار العام. ومن بعد أخرجت عينيّ ثم طفقت أنظر.. أنظر.. في الاتجاهات جميعها وأختزن. رأيت أولاً رجلاً أعمى، كأنه وهو ينظر أمامه يقرأ من لوح محفوظ. ومضى الرجل لحاله لكن نقودي تناقصت. رأيت ثانياً امرأة بدينة لدرجة أنها حين تنادي وليدها: يا هشام تحس بحرف الهاء يطن في أذنيك مليئاً بالشحم. رأيت رجلاً عبوساً، وطفلاً تغازل رجلاه علبة صلصة فارغة. رأيت أصواتاً وسمعت روائح لا حصر لها وفجأة وسط هذا كله رأيتها. قفز الدرويش مكان قلبي. ورأيتها. فارعة الطول من غير أن تتأرجح. قمحية لا كالقمح الذي نعرفه. ولكن كالقمح حين يكون قمحياً مثلها. أخذت من الضباط أجمل ما فيهم مشيتهم. ومن الناس أخذت ألبابهم. تراها فلا تشبع. قلت لنفسي:
 هذه فتاة طارت عصافيرها .

كان وجهها مستديراً ويبدو هكذا:

وكان أنفها كالخضر الطازج ولها عين؛ يالله! وعنق فرعوني ذوي وترين مشدودين أنيقين لا يبدوان إلا إذا التفتت، وإذا التفتت هربت جميع البائعات بفولهن المدمس وتساليهن المملوح. وهربت الشوارع من حفرها والروائح النتنة من أماكن بيع اللحوم، وهربت ذاكرتي إلى مستقبل أتمناه. إذا صببت ماءً في هامة البنت التي طارت عصافيرها، انحدر ناحية الجبهة. وكان جسمها إذ تمشي يتماوج، كأنه بريمة تنداح دوائرها في قطعة خشب تنوي ثقبه.
أقبلت نحوي فنظرت لحالي وأصلحتها، واقتربت أكثر فرأيتها تمسك بطفلة صغيرة تشبهها إلا من بدانة في الطفلة. كانت يداهما تتشابكان كأنهما مصممتان خصيصاً لذلك، وكأن كلا منهما تمسك بشرودها. وكانتا تعقدان الحواجب بلا دهش بين كل دقيقة وأخرى بحيث يبدو ما يحدث لعينيهما مثل برق يغسل عن وجهيهما نظرات الآخرين الجائعة.قلت:
- هذه فتاة طارت عصافيرها.

ثم التفتُّ لأختها فقلت: هذه تميمة ولا بد جاءت بها لتقيها من شر الآخرين. هذه تميمة طارت راحتها.
ورأيتهما كثيراً جداً حتى تخيَّلت نفسي بالمقابل بشعاً، فأجفلت ولكنهما ما أجلفتا ونظرت إلى التميمة. فمها دقيق كأنه لا يأكل اللايوق الذي أتلوث به. وألتفت إلى الناس ثم إليهما مرة أخرى ونظرت ثم نظرت، نظرت.. نظرت!
حتى أنقذت الموقف عربة أجرة دلفت على حين مباغتة فافسح الناس للتميمة والبنت التي طارت عصافيرها. على غير عادتهم مع النساء الأخريات، فركبتا ومن خلال غبار المنافسة وجدت نفسي أيضاً داخل العربة.
تحركنا وكانت العربة معطوبة ناشفة في سيرها. كان جاري يدخن وجاره محشو بالبصل ولو لا أن النهار كان أخضر، ولولا البنت وتميمتها وما شذ من جمالهما وأخبارهما مما ذكرت لنزلت من تلك العربة التعيسة غير آسف.

وعلى كل تصرمت خمس دقائق حين جأر الذي هو بصيل بالبصل:
- عندك هنا يا معلم.
ثم نزل وضرب الباب كأنه يسقط عليه شجاراً بائتاً، جبن من خوضه في حينه فاختزنه. تحسس السائق خده الأيمن كأن صفعة الباب كانت به.
ثم تمتم لنفسه:
- ناس ما فيها رحمة.
ترنح الرجل البصلي وعاد أدراجه ورمق السائق بعين حمراء ثم فجر قنبلته:
- أيه قلت شنو؟
صحت فيه:
- أمش بالله با ابن العم الحكاية بسيطة.السواق ما قال حاجة فيك.

تدحرجت العربة واختلط هدير موتورها بسباب الرجل البصلي ولعناته.
وكأن السائق كان يعنينا بمواصلة الحديث الذي يشبه المونولوج حين قال: ناس زي الحيوانات.

سحب الحال على البشر كلهم وما لبث يذم ويتنرفز حتى وقعت العربة في حفرة الشارع الرئيسية ثم وثبت كما تثب ضفدعة. ونقت فداس عليها سائقنا فرضخت وسارت قدما مزمجرة. كان ظهري من فرط قسوة العربة قد بدأ يؤلمني. نظرت أمامي حيث البنت التي طارت عصافيرها وتميمتها فأحرزت أنهما اتخذتا شكل المقعد. لا تشعران بالوجع ولا ينزلق غضروفاهما. وأخيراً وصلنا. نزلت البنت وتميمتها ونزلت أنا ثانياً فلم أسمع صوت أرجلهما بيد أن وقع حوافري كان مسموعاً للجميع. وأوشكت أن أتحسس أذني هل طالتا؟!
سارتا فسرت خلفهما. لا كعادة السودانيين، وكنت من أنصار السير بالتوازي قبل رؤيتهما ولكن مشيتهما كانت إيقاع خواطري. قلت لا بد أن ينبثق الإيقاع أولاً. سارتا أمامي موسيقى بالغة العذوبة وسرت لشدة اضطرابي أشتراً. وفجأة التفتتا جميلاً جداً ناحيتي وكان ثمة غضب ملون منقوش على وجهيهما قالت الكبرى: مالك مبارينا؟

قلت مقللاً من وتائر فزعهما: لا يا ابنة العم، عندي مثلك، ولا أطارد الجمال بالبنادق في الشوارع
قالت: قديمة!
قلت: لا صدقيني. ومضيت أقول عندي مثلك )أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري(. ألف مرة أجيئها غاضباً وأخرج من عندها هاشاً باشاً كأن لديها مصنعاً للفرح. خرجت في ذات يوم من لدنها مليئاً بها حتى غازلني الناس في الشوارع.
انسابت من حنجرة البنت التي طارت عصافيرها أنغام صافية مكان الضحك، ثم سكتت وسكت.
دار خاطري في ذكر حبيبتي يا لها من عفريت. تلك الفتاة شديدة الاعتداد بنفسها. شديدة الوثوق بها. قالت لي ذات مرة والصيف على أشده ونحن نرجع من حفلة موسيقية.
- جدتي كان يغني عليها سرور.
قلت: أولئك مطربون أوقعهم شعراء المرحلة في التهلكة فصاروا يتأوهون

ويتأرجحون بانتظام طرباً بمفعول لحن دائري وكلمات هابطة.
قالت: كيف؟
قلت: شعراؤهم كأنهم قصابون يبيعون المرأة جزءاً جزءاً إذ يدنو الرجل من متجر فيه حنجرة تغني وتصيح:
- نهد. نهد. وجنة. وجنة.
فيقلب الرجل في أجزاء المرأة ما طاب له وتنتبهه الحنجرة لجمال بعض الأجزاء الغائبة عليه ويخرج الرجل بعد أن يكون قد اشترى نهدا بالبصل أو خصراً بالجرير ومن كان عنده ضيوف يشتري كفلاً.
قالت حبيبتي:
- يخصي ذلك كلام منك قبيح. أحتفظ بلسانك خلف أسنانك. هل نسيت أن من بينهم خلل فرح؟
فألقمتني حجراً. 
ولا بد أن حالة سرحاني عاودتني إذ ما أن التفتُّ حتى لم أجد للبنت التي طارت عصافيرها ولا لشقيقتها أثراً. صنعت من حواسي مختبراً للتجسس على البنت وتميمتها. 
الأذنان مايكروفونان، والعينان كاميرتان والأنف معمل كيمائي واللسان نشرة أخبار وكان المختبر يعمل بكامل طاقته لا كمصانع هذه الأيام، ثم ترصدت مثل فأر يترصد حركات عدوه التقليدي فيتفاداها. ثم أن رادار البنت التقطني. 
قالت: وهي تركض خلفي وأنا أوسع من خطواتي خوف أن تشتمني:
- عذبتني. أنت داير مني شنو ياخ!
قلت: لا شيء سوى أن أراك. أغنيك. أحلم بك، لا دخل للأذى في علاقتنا.
إنه انجذاب وحيد الجانب. فأنا يعجبني من هو مثلك ولكنني أشعر أمامه بالدونية.ضحكت البنت وتفرست فيَّ باستغراب فتماديت:
- أمصنوعة أنت من أحمر الدم؟ وهل كان قلبك وردةً فمرت عليها
المصائب حتى طوتها؟
ضحكت مرة أخرى فسقط قلبي في ثلج من الرضا والفرح.
سألت:
- شاعر؟
قلت:
- يقولون.
ثم أردفت:
- ومن أخبرك بأمري.
قالت:
- سمعنا.
قلت:
- ومن معك حتى تخاطبين نفسك بضمير التعظيم؟ ألا إن وجهك نور وصوتك نور وأنت مرايا معلقة في دموعي تضيء فأبكي.
قالت:
- جميل. كنت أسيء فهمك. الآن حصحص الحق. أنت تعرف شباب هذه الأيام تافهون ووقحون.
قلت:
- بل أعرفهم. انبشي تجدين نفيس المعادن. المعادن لا توجد على السطح أصحابي أكثر من النمل، غالبيتهم يتَفهمون ويَفهمون ويُفهمون.
ركضت البنت بفرح أمامي. كان قوامها يتماوج حتى اختفت ورنّ في أذني صليل جرسها العذب. وما انفكت صورة عينيها تضيء وتظلم في دماغي، وما برح وجهها يغذى ذاكرتي بالفرح. طارت عصافيرها طارت. طارت. طارت.
وهكذا أصبحنا صديقين. لشهر كامل استمرت مقابلتي لها في الشارع العام. نركض. نضحك ونتحاور فلم أصل غورها وخفت أن تكون قد لامست سطحي. وذات أربعاء سألتها.
- من تلك التي في يمينك؟
- أختي أتوكأ عليها وتساعدني على السير في الأسواق وتحفظني من شرور العربات.
قلت:
- تميمة؟
قالت:
-ماذا؟
قلت:
- رقية؟ تحفظك من شر العيون؟
ثم قلت لنفسي: )وإذا المنية أنشبت أظفارها الفيت كل تميمة لا تنفع(. وحدقت مرة في وجه الجميلتين ملياً. الصغرى ذبلت وخارت قواها كما تخور قوى ثور الساقية. لا بد أن المشاوير أشاختها قبل الطفولة. ركبت معهما كانت العيون قد بدأت تتطاير من أركان الحافلة كلها وهطلت العيون في أفخاذ ووجهي وعيون وجسدي البنتين وغمرتهما العيون التي تشبه المناشير الزجاجية. التفتُ ورائي وأمامي الجميع محاجرهم كالملاحات الفارغة. طارت العيون عن الوجوه وأصبحت في كل وجه حفرتان. ومنعت نظارتي الطبية عيني عن الإقلاع والطيران وبما أنني منحت حب استطلاع غامر ومتعة إحصاء فذة، فقد وجدت أن بجسديهما تسعاً وتسعين عينا مستديرة وعجبت أول الأمر للرقم الفردي والتفتُ ورائي فوجدت أن أحدهم كان أعور. عدتُ إلى البيت غاضباً ونبشت أوراقي فوجدت ضالتي وصممت على الرجوع في الحين. كان النهار قد انتصف. الشمس قائظة وأنا مغتاظ ووجدت
باب حافلة مفتوحاً ككرش مرتش فدخلت وكانت تلك الحافلة كمركب نوح.
بها كل الوجوه. اشتات مجتمعات. فيها يسهل السهو والسرحان. وما أن جلست حتى أطلقت خيولي قوية السنابك من اصطبلاتها فرتعت في حول- خيالي وخيدعي.
كأن صوتي ضاع مني. كأنه سقط. تكالبت عليّ الهموم فلا عيناي ولا عيون غيري أيقظتني.
آه مني أنا القدح ابن الكرم، يملأونني بالشجن مكان الدخن واللبن وأملأهم بالفرح مكان الحزن والبؤس فبئس مصيري، وبخ بخ لمصيرهم كأنني مصنوع لاستمرارهم وكأنهم مستمرون – لشقائي. وآه مني أنا ابن النوم. ابن الانتظارات والمواعيد الكذوبات. لي حبيبة في الذاكرة والمني فقط.
مثلي يتمنى مثلها. ومثلها لا يرضي بمثل من هو مثلي. فمثل من أنا؟ يا بقرة –
قلت لنفسي يا وحشاً. يا رجلاً محشواً بالأمراض، بالجراثيم، بالصعود والهبوط. وبالتحولات والاهتزازات، تحيط به الباحثات عن سعادة فيسومهن سوط عذاب والباحثات عن صديق فيعاديهن، وتحيط به اللائي طارت عصافيرهن ولا يحيط بشيء. ومع ذلك فهو يدعي أنه من قبيل يفهم، يعي، يشاكس، ويتمرد.
رجعت لحال بؤسي وأنا ما زلت في تلك الحافلة اللعينة. فوجدت الناس من حولي تناطح، لا يترك رجل لامرأة من مقعد ولا تترك امرأة لرجل من لعنة في قاموس. كان لا بد من أن أنزل قبل أن أصل إلى المحطة بغيتي فنزلت ورأيت قدامى قطاراً من البشر، دفع به الفضول نحو المستشفى ولم يكن فضولي أقل كما ولا نوعاً إطلاقاً ولكنني كنت مكابراً. ركبت موجة الزحام بعد أن أفرغت كل عبارات وتأوهات التعجب.

- في شنو يا جماعة؟
وتاهت عبارتي السؤالية في لجة عبارات مشابهة وجاءتني تفسيرات شتى كل تفسير مستقل عن غيره ملم ببعض التفاصيل متجاهل لبعضها فما زادتني إجابات المارة إلا اندفاعاً شديداً إلى الأمام نحو مبعث حب الاستطلاع ثم كان أن انجرفت بفعل تلاطم الناس نحو الشيمة أكثر فأكثر حتى صرخت:
- دم!
كأن موسى حادة قطعت الأشعة عن عيني. كأنني مُتُّ. مضرجة. مضرجة خضابها الدماء والصدمة؛ خضاب تميمتها الدماء والفزع. وخضاب مثيلاتهما الحناء. دم في أيديهما كقاتلتين وفي أرجلهما كمقتولتين. وفي مختلف انحائهما بحيث لا تعرف من أين ينبثق قلت لنفسي بصوت مسموع :
- حادث حركة ولا بد.
صرخ رجل ذو وجه مستدير منفعل:
- لا.
قلت صامتا:
- ماذا إذن؟
ثم استدرت مع جملة المبحلقين قبالة وجه شاب هادئ الصوت حين
قال:
- كانتا في الشاطئ. منكفئتان هكذا وفاقدتان للوعي وجدهما رجل بدين
ذهب الآن لقسم الشرطة.
قلت صارخاًً:
- حادث حركة لابد.
صرخ جاري الذي تصادف ان كان ضمن دائرة المشاهدين:
– يا راجل أنت مجنون؟ حادث حركة في الشاطئ يعني صدمتهن مركب؟
واللا نطت سمكة من البحر ضربتهن؟
قلت لنفسي:
- حادث حركة ولا بد. ثم استدرت نحو الشارع العريض مؤذنا صارخاً ضاحكاً ولاعباً باكياً وخطيباً- لا لا لا لا طارت عصافيرها طارت عصافيرها طارت
عصافيرها؛ طارت عصافيرها. طارت عصافيرها. طارت.... طارت. 
تلفت بعض السابلة وهزوا رؤوسهم ثم تلفتوا من باب التأكيد على كون أني مجنون ومضوا في حال سبيلهم.
- طارت.. طارت.. طارت..
أوقف رجل عربته. كان ممتلئ الأوداج بالضحك وسألني:
- شنو الطارت دي ا؟
فقلت:
- عصافيرها..
ضحك حتى ارتج الأسفلت وحتى انبعجت العربة وأطلقت ريحا ثم أدار محرك عربته واختفى.
- طارت.. طارت.. طارت.. هل ؟ لا بد أن قوة ما ذهبت بهما إلى ذلك المكان.
لا بد أنها حيلة ما. أرأيت الفزع والخوف على وجهيهما؟ فزع التميمة
وصدمة البنت التي طارت عصافيرها؟
- لا لا حطت.. حطت.. حطت..
رأيت قدامي جمهرة وخلفت ورائي جمهرة. كلهم ينظرون إليّ كأنني مرتكب الحادث. كدت اصرخ فيهم: – طارت! ولكنني وجدت الأسفلت ممتداً أمامي فمشيت ومشيت ومشيت ومشيت؛ ذلك الظهر الكئيب. لا منبع حلمي وصلت ولا دارنا، النهر اقرب وعيون الحبيبات أكثر أمناً، فلأذهب لهذا عسى أن اغتسل ولتلك عيسى أن أتوسد سوادها وأنام في متن بياضها
ملء جفوني وليسهر الخلق وليختصم ما شاء له طالما أن عصافير برية بريئة حصبوها بالحجارة والرغبات المتمركزة حول ذاتها فحطت بمكان قبيح، قسرا في بقعة مليئة بالقسر والإكراه.
----------
حكاية البنت التي طارت عصافيرها
د. بشرى الفاضل
النص الفائز بحائزة (كين) للادب الافريقي المعاصر
لندن يوليو 2017

الخميس، 7 أبريل 2016

طلال الطيب -شعر أفريقي خشن - النص الفائز بالمركز الثاني في مسابقة الطيب صالح



شعر  أفريقي  خشن !

أنا  رجل   عادي  جدا , وليس  لهذا  معنى . أقصد  بأني  من النوع  الذي  إذا  جلس  بالقرب  منك  فلن  يثير إنتباهك  . أحمل  كيس فيه طماطم وربع جبنة وليمون  ورغيف  . 
أعمل  في وظيفة عادية  لولا أنني  أخذ مرتب  في كل شهر  فلن  يلاحظ أحد بأني أعمل  ولن ألاحظ  أنا  بأني  أعمل . 
أقصى  ما أستطيع   فعله  من حركة وتغير  في الكون  أنني أغسل  السكين وأقطع الطماطم  وأخلطها  بالجبنة  وأكل  . هل  أخبرتك  بأني  نباتي ؟ 
أنا  لست كذلك  ؛ لأني  لا أحب  اللحم  , لكن  ذات يوم إشتريت ربع كيلو  لحمة وبينما  أنا  أغسلها  وجدت قطعة  صغيرة  من الجلد  . أذكر أني  حملتها  بحذر  شديد  , شممتها   وعرفت  بأنها  قطعة  من جلد  كلب .! 
ذهبت  إلى الشارع وإقتربت  من كلب  الجيران  الطيب وهو أيضا  علم  بأني أحمل  قطعة جلد  كلب , فكشر  عن أنيابه  وأبرز مخالبه  وأخذ  يضرب الأرض   بجنون ! 
لم  يتبقى له  إلا أن يقفز على عنقي ويعضه  .فعلا هو  كلب  طيب كان يبصبص  بذيله  كلما  رأني  .! 
 لا أعرف  ما الذي  يعجبه  في  لكن  يبدو  أن  للكلاب  قدرة كبيرة على أن تحب أي  أحد ( الكلب  بريد  خناقوا  ) أتحسس عنقي كلما تذكرت هذه العبارة . 
المهم  منذ  ذلك  اليوم  أخذت  فقط  أكل  النبات وأحيانا  السمك . 
حياتي  تسير   بسلاسة , يحسدني  عليها  الكثيرون . لا أستدين  من أحد  , لا أخرج  للنادي حتى أثرثر  مع أحد  , لا أمارس  هواية  معينة . 
أحيانا  أتصل   بأمي ليس  لأني  أحتاج  لحنانها   بل  لأني  لا أريد  أن أبدو كناكر  للجميل  , في  كل  مرة  يأتي  عيد ميلادي  أتذكر بأنها  تألمت كثيرا  في  هذا  اليوم  فأشتري  لها  هدية . من السهل  أن أشتري  لها  الهدايا فأنا  أعلم  الأشياء التي  تحتاجها  والتي  تكرهها  . 
سوف  أبدو  رتيبا لو  حدثتك  عن  إمرأة  أحبها  , لا بأس  الحياة أصلا  رتيبة . ألم  تفكر   بأن  القمر   يدور  حول  الأرض  منذ  سالف العصر  والدهور , أقصد  بأن نفس القمر  رأه  فرعون  ذات يوم  في  طفولته ولعله أثار  فيه شجونا رومانسية , حتى الإكسندر العظيم  حلم  بأن  يطير إليه  بخيول  من  نار  .! أه  أقصد  بأن الرتابة صفة  وجودية . 
المهم  أنا أحب  جارتي لحسن حظي , فكلما  كان من تحب  قريبا منك  كلما  كانت حياتك أفضل لكن  ليس دائما  . هي  بنت  جامعية  لعلي أكبرها بأربع سنوات لكنها أجمل  مني  بكثير  . 
قبل  أن تغلق الحكومة إذاعة بي بي سي كنت أرقد  على سريري , أرتدي عراقي , وأضع رادي  فوق  الطاولة  وأسمعها , لا أقصد  بأني أسمع الإذاعة بل  أسمعها  هي . كانت تدرس  أطفال الحي  الحساب  والأنجليزي والعربي في حوش بيتها .
أتخيل  لو  تزوجتها سوف  تنقل  لوحها  الأسود  إلى  هنا  وتدرس أطفال الحي .
أتخيل  بأني  سوف  أطلب  منها أن تتوقف  عن  ذلك  وحينها  سوف  أبدو حقا مثل  وغد حقيقي  .
هي  ليست جميلة  جدا  , لكنها  تعجبني  فكلما  رأيتها  يخفق  قلبي  بشدة , أحيانا  يستحسن أن تتزوج  تلك  التي  كلما  رأيتها  تزداد نبضات  قلبك . 
لها  شعر  أفريقي  خشن , شعر  كثيف  جدا  . لو أطلقته سوف تبدو مثل مغنية الجاز نينا سيمون .
غير  أن لها  إبتسامة  جميلة , تغريك  بأن تعانقها  .أن تكون  معها . وهي  سمينة قليلا  ,أقصد   بانها لو وضعت قدمها  فوق  قدمك من غير  قصد  سوف تتألم كثيرا لكنك سوف  تنسى الألم عندما  تعتذر  إليك بابتسامة جذابة وصوت يشبه زفير الغابة .
بالتأكيد  غيرتني  كأني  كنت  رمادي فصبت علي كل  ما  في  الفرشاة من ألوان . 
من  السوق  العربي  إشتريت  دواوين  شعر  صغيرة نسبيا  لنزار قباني  الذي كنت أعتبره  مجرد  صعلوك ! وفهمت  أخيرا  عن ماذا  كان  هذا الوغد _ الذي له وجه  قط  عجوز  أغبر  أره في أنحاء البيت    أحيانا _  يتحدث .كان يتحدث عن النساء   بكل ألوانهن  وأشكالهن . 
وبعدها  إنتقلت  لمجلة العربي  الثقافية  وهذه  جعلتني  أقرأ  الكتب  وهي لا تزال  تدرس  الأطفال . صوتها  يكرر   I فيقول   الأطفال  :  I  
_ I,am 
يردد  الأطفال : I,am
وأنا  كل  مرة  أقول  :  I love you .
لابد  بأني  كنت مثيرا للشفقة  بالنسبة  للسماء إذا  كانت  تسمع  وأنا  أقول  هذه  العبارة للفراغ  , لا لشيء  أخر  . أنا  إعتبرت  هذا  نوع من التقدم . أحتاج  فقط  إلى الكلمات , والقراءة  سوف تساعدني على إيجادها  . 
ذات مرة  شاهدت  فيلم أمريكي  عن  شاب أسود موهوب  يحب الكتابة فيتعرف على كاتب مشهور  إختار شقته  منفى  له . هذا الكاتب  نصحه  بأن  يقدم لحبيبته هدية  مفاجئة  , فأهداها  كتابا. 
لا بأس أن  تأخذ النصائح  من الأفلام . بعد أن إنتهيت من عملي  , ذهبت إلى الدار السودانية  للكتب  مكان أصبحت أذهب  إليه  بعد  أن  تغيرت . إشتريت  رواية ميرامار  لنجيب محفوظ  . تعجبني  هذه  الرواية  فيها  شخصية زهرة وهي شخصية رائعة .
ولحسن  الحظ  صادفتها  تحاول أن تدفع  الباب لتدخل  . لم أتردد وأنا أخطوا  نحوها  بل  كنت  أشعر   بالسعادة  كلما  إقتربت  منها  , حتى دخلت إلى نطاق جاذبيتها  .عطرها  , قميصها الذهبي بتفصيل أفريقي , شعرها الذي  تربطه بقماش أزرق . حبات عرق عذبة تلمع  على جبينها  , خديها الكبيريين , شفتيها الطيبتين .
وأنت  بطبيعة  الحال  تكون  شجاعا  ما دمت سوف تعطيها  رواية أو أي شيء .
مددت إليها  الكتاب . وقلت  لها : خذيه  هدية !
وندمت أنني  تركتها  بعد كلامي  البسيط  هذا  . لم ألتفت إلا  بعد  سماعي لصوت الباب الذي  جزء منه حديد والأخر  خشب  يصدر  ذلك  الصوت المميز عندما  يفتح .
قالت لي  :  شكرا  . إستطاعت  أن تسمعها  لي  ؛ لأنها إعتادت أن تسمع من يكون  بعيدا  مثل  طفل يجلس  في أخر  مقعد  , رمت الكلمة ببراعة في قلبي كلاعبة كرة  سلة محترفة  .!
عندما  سألني  صديقي  _ نعم أصبح  لي أصدقاء  , عن  قبيلتها  .!
ضحكت  وقلت  أنا  لم أسألها  عن  قبيلتها  أبدا  . أسأل  عن  حالها , عن صحة أمها , عن صحة الأشجار التي  تسقيها , عن صحة إخوتها  الصغار  . أسألها  أحيانا . هل  تحتاجين  إلى  طباشير  ؟  عندما  تقح  . أسألها  : هل  أنت  بخير  ؟ 
أسألها  أين إختفى  ذلك  العطر , هل  نفد  ؟  طلبت منها  ذات مرة أن تعطيني  قميص  أفريقي مثل  الذي  يرتديه صاحب  قصيدة ( الله  في  هذه  البلاد  ضابط في الجيش ) أذكر  أنها إشترت  لي  واحد وقد  كانت  تبدو  شاحبة  قليلا  وبعد  ذلك  علمت  بأنها  كانت توفر من نقود فطورها لتشتريه لي .!
بعد  كل  هذا  مستحيل  أن  أهتم  بقبيلتها  أو  بعرقها  . 
في  التسعينات لم تكن هناك  هواتف  ذكية  ولا تطبيقات تتيح إرسال  الصور  . كنا أحيانا نثرثر على الحائط  طوال الليل  .لا أقصد  حائط الفيس بوك . بل  حائط  الجالوص . هي قصيرة نوعا ما , فتطلع  على  مقعد  قوائمه من الخشب  ذلك  النوع  الذي  يصنع منه العناقريب  وأنا على طوبتين  من  الطين  . ونثرثر طوال  الليل وأحيانا  نتبادل  القبل , في بعض الأحيان كانت تسمح  لي  بلمس صدرها  . ذات  مرة  رضيت  أن تأتي إلي ؛ بمعنى حاولت أن تتجاوز الحائط لنكون  معا  في  بيتنا _ نعم ليس  بيتي _  وعندما  لم تستطع  فعلت أنا  ذلك  ,على عكسي  بيتها  لم  يكن خاليا .كنت أسمع  شخير جدها  العجوز  , غمغمة إخوتها  الصغار  . لكنا تعانقنا  وتبادلنا القبلات حتى كادت أنفاسنا تنقطع .! 
أنت  تعلم  بأننا  لا نستطيع فعل  ذلك  في  حديقة  عامة أو  في  شارع النيل , لا أتخيل شرطي  يعاملها  بإزدراء أو  يجلد عجيزتها الجميلة , لا أتخيل  رؤيتها  خائفة  ذليلة  . لو  رأيت  ذلك  سوف  أقتل  نفسي . سوف أركض  إلى جسر  الإنقاذ  وأقفز  إلى النهر  من  هناك  وأنا  لا أعرف  السباحة !
أعطتني  صورة  فتوغرافية  لها  , حقا  لها  لون مختلف  عن  لوني  . أنا لوني قمحي كما  يصفه  الناس  حولي . بالنسبة  لي  ألوان البشر  اللغة  لا تستطيع  أن تصفها  , هي  ألوان من صنع الإله  لا  علاقة  لنا  بها  . هل  هي  سمراء  , هل هي  سوداء  , هل  هي  بيضاء  ؟ حقيقة  لا أعلم  لكني  أعلم  بأني  أحب  كل  شيء   فيها  . أنفها  فمها  , عينيها , حاجبيها , جبينها  .الذي  أتمنى أن أقبله . أحب  كل  شيء  . 
أخبرت  أمي   بأني  أريد  أن أتزوج  . أنا  أعرف  من هي  التي  سوف أتزوجها . نزار  قباني  يقول  :  الحب  للشجعان  أما الجبناء  فتزوجهم  أمهاتهم  . 
ذات  مرة إشتريت لحم  ضأن , وأخذت  أشويه . أخذت رائحة الشواء تنطلق في  الجو . شمها كلب الجيران  فرأيته  يبصبص بذيله , كان  يبتسم  ببلاهة . رميت إليه قطع من اللحم  , تجعلني  أطرده  من غير أن أشعر  بأني  لئيم . وفعلا أخذ يهز ذيله ويبتسم  ببلاهة   طالبا المزيد  من  اللحم  . هنا  نهضت . طردته  وكأني أهش الحمام  . وأغلقت  الباب  . 
جأت هي  تحمل  صحن  شعيرية , وجلسنا  على الأرض  نأكل , داعبت خاتم الذهب  الذي  في إصبعها فصرختُ:   يا  الله  !
 فضحكت هي . لقد  كان  ذلك  الخاتم .هو  خاتم  الخطوبة .

الطيب عبدالسلام -باتريشا-النص الفائز بجائزة الطيب صالح



:النص

باتريـشا...الغزالةُ الخضراء..."الي روح معين بسيسو في العالميَن"

"تجتهِدُ المُفرداتُ لِتري...أجتهِدُ انا لِا تذكر!!!"
"قطراتُ الدمعِ...
قطراتُ المطر...
من فينا يُمطِرُ اكثر؟؟"
السماء تودِعُنا بامطارِها الاِستوائيةِ المُعتقة،والثكناتُ تُفيقُ من سهدِها الطويل فينا، هاهي الذكرياتُ تتسللُ مِن الاماكِن لتِراوِغَ لا معنانا المقيت ككُل الكائناتِ الهِيوليةِ النقية"..
كان كائنك الداخلي يا "تَمومةْ الجِرتِق"* يُمارِسُ هزيانهُ الدائم، من دونِ ان يجروءَ علي مسكِ القلم...   الخريفُ ما زال في خريفِ فصلِه، بينما تتعالي صرخات الشجرة "المجنونة"* وكأنها  دخلت لِتوها خلوةَ الاُلوهةَ...او رُبما مسها  داءُ العِشقِ فصارت كما ترى منكوشةَ الاغصان والفُروع....الخريفُ عيدٌ كونيُ للاشياء...اِلاكَ يا حرازة* الشمال.
سينتهي خريفُك يا تمومة الجِرتِق قبلَ اواناتِهِ التي عِرفها...اعرِفُ ان المكان تمكن منك ولكنها حالُ العساكِر والعُلب المُصفحة التي  تتبعُهُم اينما ساروا..
بِخفةِ الغزالِ الاخضر تُعانِقُك باتريشا عِناقا لاهوتِياً، كأنكُما اِلتقيتُما اولَ مرةٍ كنِقاطٍ صغيرةٍ جِداً في احدِ سُطورِ الاتفاقيةِ الملحميةِ التي اوقعوا بسببها بِكُم...بصقتَ "صعوتكَ" في مقت.. تمتمتْ...          
          - "اتحتاج هذه الاوراق خمسينَ عاماً من الموت؟؟؟."
توغلتِ الكتيبة..توغلَ المكانُ فيك..توغل الاخضرُ الذي يرتديكَ في عينيها..."الغزالةُ الخضراءُ التي انبجست مِن ضِلعِك الاخضر!!"...وبينَ فوهةٍ وفوهة رأيتهُم و رأوك...بعضُهُم يُشبِهُك وبعضُك الاخرُ يُشبِهُ بعضهُم الاخر...لم يكونوا شياطيناً حُمراً كما توقعت...تعانق الفيلقان..فيلق المسلمين بِفيلقِ قُريش الزُنجي الاسود...
عُشرونَ عاماً او يزيد كُنتَ تُصوِبُ حواسكَ الرصاصيةَ نحوهُم..واقِفاً علي شفا طلقةٍ طائشة.. بينما ظلت صرخاتُ "ابو حمزة الانصاري" تُطارِدك حيثما سميت :
- وسارِعوا الي جنةٍ عرضُها السمواتُ والارض...حورٌ مضروباتٌ في الخيام.. مُدخناتٌ محنناتٌ مشويات محشيات.
همُك المشترك مع اغلبِ ابناء الكتيبة أن تحصل علي نجمةٍ في عِزِ الكتف تقيك "نرفزةَ" الصقُورُ والسيوف والدبابير...ضحِكتَ في عز المعركة...واصلت سردكَ الداخِلي.."حتي الملائكة الواقفين علي كتفِي يخجلونَ مِن هذين الشريطِين الذين لا يعصِمانِ من صول او مُقدم"...وحينما يائستَ مِن نجمةٍ عِز الكتف قُلتِ في لا اِكتِراث :"حتماً اولُ النُجومِ دبورة",,صِرتَ الان تمتلِكُ دبورةً مُدورةٍ  كالقمرِ ليلة القدرِ الكتفية...ليت اُمك "خادم النبي" رأتكَ..!
فنتِ الكتيبةُ في كمينٍ برِمائيٍ جوي..الناجون قالوا: اِنها نيرانٌ صديقة...المُؤمِنونَ قالوا :                 
    أن السماءَ اخطاءت في قِصفِها الكُفار فقصفتهم هُم كنوعٍ مِن الاِبتلاء لأن الله اذا احب عبداً ابتلاه لكِنهُم سيُراجِعونَ الامرَ مع منادِيبِهِ في الصُفوفِ الخلفية.
بعد شهر  اتي المدد الفٌ من طلبةِ الجامِعاتِ والشبابِ مُردفين..بعضُهُم كانَ طبيباً ومُهندِساً وبعضُهم جاء بِمحضِ  اِرادةِ  دفارِ الخِدمةِ اِلالزاميةِ الذي خمشهُ فِي اِحدي كشاتِ التجنيدِ الاجباريِ المحمومة...لكِنهُ لم يُكن يرغب في الموت باي حال..سحبتَ نفسا طويـــــــــــــــلاً مِن رياحِ الاِستواء الصباحية الفردوسية ثم قُلت: سيُضيعونَ شبابهم ولاشك؟؟"
تساقطوا امامكَ مِثلَ الجراد بِذاتِ الحماس الا مُتناهي الذي ابدتهُ الاغلبِيةُ مِنهُم للموت..سقط أحدُهُم علي كتِفِك..عيناهُ البُنيتان لحيتهُ الرضيعة المازالت في بواكِيرها..جبهتهُ المتورمة,..بكيت عليه...معه...مسحت علي وجههِ ببرودٍ ساِخن.. تعلمتهُ كفُك مِن قعرِ البُندقية...واصلت غيك الداخلي...." يا ولدي الجابكَ لِلموت شِنو بي رِجليك؟؟..وا وجعةَ اُمك وابوك..وا حُرقة حشاهُم"..رسمت علي شفتيه قبلة عميقة...وأختلطت كلتا الحالتين في لحظةٍ واحدة....عبثكَ القديم بِابناءِ جِنسِك..ونقائِك الا مُتناهي تُجاههُ..احالوك اِلي مجلِسِ التحقيقِ والتدقيق...اِستغفاراتٌ موتورة ولعناتٌ مُتوتِرة وطرقعاتٌ محمومة...تسد عليك مسامَ هذهِ الخيمةِ التي اِمتلاءت ..صُقوراً وسيوفاً ودبابيراً...اِقتلعوا دبورتكَ التي صارت تكويناً عُضوياً مِنك..وارجعوك الي عالم "الشرايطِ الوردية ".. الي ايام الفتيات الصغيرات..حيث كنت وكن.
قُلت لها في عمرٍ كان في مِثل هذا الجو: ما احلى الشريطين الورديين علي شعرِك...طوقتك بصمتها وطوقك شريطيها الي يوم يبعثون...
ضربتَ كفاً بِكف قُلتَ سِراً " ولكِنهُم مُثيرون ليس ذنبي، ان يولدوا شهيين هكذا..ليس ذنبي!!"..البعض قال انك تُحب الظُهور وتكرهُ الظهور..الاخرون قالوا: بل هو مرض جماعي...
كفكفت سفتكَ* الطينية المعتقة..اهلت علي بنات افكارك الوليدات تراب النسيان..فمُرتبكَ حتماً لن يكفي لاِطعامهِن جميعاً، وأِن خرجنَ الي شوارعِ السُطور فسيجلِبن العارَ والمهانةَ لاجدِادِك في لحدهم          ولاحفادك في مهدِهِم...وحتى حينما تأكدوا وتأكدت لم يجروء احد علي فصلِك...فانت يا "تمومةَ الجرتِق" كُنت مخلِصاً جِداً في تحضُرِك اللحظي لِلموت..لم تُساوي عِندكَ الدُنيا اكثرَ مِما تُساويهِ فيها..صفرا مهملا في عدد لطالما ظل الراديو يردده...
-"لدينا عشرين الف..بل مئة الف هذا غير الملائكة والجن المسلم"..أِحترت جدا في تصنيف نفسك وفق هذه الثلاثة انواع لكِنك تشعر بحنين قريب الي كونك جن مسلم...لأن الملايكة لا ياكلون البصل ولا يدخنون السيجار ولا يسِفون الصعوت ولا يحبون الظهور.
هاهو ذا انيسك المعدني..يتردد في بثك الحانك البعيدة..تغرق موجاته في بحر الغيوم المتوترة..:
"كان ذلك مطلع حلم*
/وكان اخضر/ كُنتَ مُكللاً بِها /وبِلا امد..."...
اِنطفاءتِ البنادِقُ ليلتها باكرا بينما علت تكبيرات الصفوف الخلفية بالتهليل والصراخ حتى أختنق الراديو وتوقفت بطارياته عن الصبر....ليلتها تعانقت الفوهات اللدودة..جاءت السيوف والصقور والكروشِ المُمتليئة والعيونِ التي تدورُ في الِاتجاهاتِ الاربعة..كتبوا اسماءهُم نيابةً عنكُم، وعادوا الي حيث اتوا...

ضربتَ الارضَ بِكلتا قدميك..كانوا سيُقلِدونكَ وِسام "الثور المقاتل" من الطبقةِ الاولى...
لولا  أنها مرت لحظتها علي بُعد ميلين منك..سمِعتَ خطواتها الرياحيةَ البارِدة...دفعتهُم مِن امامِك وركضتَ بِاتجاه الصوت...قال البعض: جُن الثور..الاخرون قالوا: أنها فرحة متطرفة فهم يعلمون جيدا احلام يقظتك المريرة بِهذا النيشان فلطالما سمعوك تردد مترنما: 
-" لمن ابقي تور من الطبقة الاولى واللهِ انطح ليكم النجوم دي نجمة نجمة"
....تفاجاءتْ بِك.. بِسجودك الكُليِ تحت قدميها...مدت يديها الخضراوين الي وجهِك فصار مُضيئاً،    
    الى قلبِك فدرت دقاتُهُ هُدواءً بطعم الخمر...رددتْ في خوفٍ خجول:
- انا باتريشا،أِبنةُ السماء...
قبلتها بِحُرقةٍ علي قدمِها...غيك الداخلي اندفع خارجا ناحية لِسانٍ ادمنَ الصمت:     
    -  الغزالةُ الخضراء..اِبنةُ اِلاله... 

نظرتْ اِلي الاُفق...رددتْ في حُزن: يبدو انها ستُمطر...نظرتْ بعدها في حُب، قالت: يبدو انها ستُزهِر ..نظرت بعدها في غُموض لم تقُل: يبدو اننا سنبحر...تكومتَ فوقها كالقتِيل..انبعثتْ اُغنيةٌ لا مُناسبةَ لها من مذياعك الداخلي: "خفيفاً، لطيفاً...خفياً نقياً.."..احسستَ بِخفةٍ في كُلِ شئ وكأن العرقَ المُنسرِب مِنك غسلَ روحك بالمِسكِ الاخضر تخففتَ مِن التُراب..تخففتَ مِن الماء...تخففت مِنك...ذُقتَ لِذةَ الهواء البارِد الذي يهُبُ علي كُنه اِنعدامِكَ الخفيف.
كتبتَ في غيِك الداخِليِ عنها: "عيناها اشدُ اثارةً واستدارةً من ردفيها...ردفيها اكثرُ اِدراراً مِن نهديها...نهديها..........شفتاها الذ من اشجار المانجا والانناس...غزالة بكل الالوان"....واعدتها ثلاثين يوما وازددتَ عشراً..طُفتَ معها..الاحراشَ والغابات حلقتَ معها بين النُجومِ والمجرات والوُحولِ والشلالات، غُصتما في النيل ووُلِدتُما مِنهُ سمكتينِ..ضفدعينِ...ملكينِ...أدميين...علمتكَ الحُب اللدُني وعلمتها انتَ كيفيةَ تشغيلِ الراديو وقِرأةَ الساعةِ والتحدُث في جِهازِ اِلارسال...امتلاء ثدياها بِالحليب على الرغم من أنه لم يكن ثمة طفل ...قالت لك: يبدو انكَ المسيح ولاشك...سقتك من حليِبِها حتي ارتويت، ادنتك مِنها/حتي/تدليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت.
لم يعرِفوكَ حيِنما ارجعتهُم اِلي عِصمةِ ذاكِرتِك،البعض قالوا: أنكَ صَرتَ في سَنِ العِشرين، الاخرونَ قالوا: بلِ ازددتَ عِشرين...احضروا شيخاً قديماً...ارغى وازبد...قال بعدها: لقد زوجتكما علي سنة الله ورسوله!!
ضحِكتْ باتريشا مليا ثُم قالت: الله ورسوله ديل مِنو كمان يا مندُكورو*؟؟؟...نظرتَ الي كرشِها المُستديرِ في حميميةٍ ثُم قُلت: ليسا اجملُ مِنكِ علي كُلِ حال...كظم الشيخ لحيتهُ في جيبِه  ورددَ بصوتٍ عالٍ: استغفِرُ الله العظيم وحدجك بنظرةٍ حارة...علت زغاريدُ الوازا* وعلت تكبيراتُ الزملاء...وعلت اغنيات القبيلة الخضراء التي جاءت ببقرها وخمرها....
جاء الطِفلُ الثالِث...والرابع...وباتريشا تصغُرُ عاماً كُل عام....ليلتها وتحت قطيتكما* الدافيئة صارحتها بِما كانت تتوقعه..
سنعود غدا الي الشمال فقد انتهي تفويض القوات المشتركة ولم يعد مرحبا بنا هنا!!!

لقد عرضتُ عليكِ الصحراء فرفضتها وقُلتِ انكِ لن تترُكينَ جزورك عاريةً علي صحراءٍ لم تألفيها!!!
قاطعته في لهفة :
-ولِكن وتنك* هِنا؟؟؟
- هذِهِ الشِلوخ المرسومةَ علي وجهي تنفي ذلِك بِتعصُب..ساعود يا باتريشا  لاحملك علي ظهري وأطير بِكِ الي شلالاتِ فيكتوريا العظيمة..،ساترُكُ لكِ الصغارَ...حينما يكبروا قولي لهم أنني لم اُرِد لهُم ان يتسِخوا بِالصحراء.. تركتهُم لِلطينِ...لِلمطر...وللغِزلانِ الخضراء...

هاهي عيناكَ تُفلِتانِ تلاليبَ المكانِ الحميم،وعينا باتريشا المُمطِرتين....وتتورطُ في المدينةِ مُجدداً...قُلتَ فِي سِركِ: يااااااااه عشرون عاما لم اري الخرطوم،صارت البيوت الطينية البيضاء اعشاشا اسمنتية سوداء...بكيتَ حينها بِاحتراق شعرتَ بِطاقةِ ندمٍ لا نِهائية... تورطتَ في الرِسالة..:
الي باتريشا الغزالة الخضراء "لو كانَ اولائِك الانقياءُ الشُبان يعرِفونَ ان الصفوفَ الخلفيةَ خانتهَم وتطاولت في المَؤخراتِ الاسمنتيةِ وأن دمأهم بيعت بجرة لتر من بترول الجنوب...لما ماتوا...لكنهم يا باتريشا كانوا انقي من العيش في الواقع فاختاروا الاحلام...اترينَ هذا الوجهَ الغائصَ بين الالافِ مِن الوجُوه يا باتريشا في هذه الصورة الباهِتة؟؟...أِنهُ انا بِمعيةِ الزُملاءِ ونحن نبدأ انسحابنا الي الفراغ...ايييه يا باتريشا لكم احِنُ اليكِ"...

" في ذات الجريدة  طالعت أماني خبر قدوم الجنود من الجنوب ذغردت بفرح دامع: " راجلي رجع من الجنوب يا نااااااااااس الحلة!!!    "

***********************************
هوامش:
تمومة الجرتق: بمعني تكميل عدد اي شي أخير لتمام الشئ والجرتق هو طقس الزواج الاخير لدي قبايل الشمال والوسط.
المجنونة: نوع من اشجار الاستواء تكون اغصانها متباعدة وغير مرتبة ومنكشة كحال المجنون .
الحراز: نوع من الشجر يزبل مع قدوم المطر.
السفة: هي مسحوق اسود مصنوع من عناصر محلية بغرض الكيف وفكرته كفكرة القات ويسمى الصعوط ايضا.
3: هو مقطع من قصيدة "ثمة حزن..ثمة مريم" للشاعر السوداني: انس مصطفي عن ديوانه "نثار حول ابيض"
مندكورو: هو الرجل الغريب بلغة بعض اهل الجنوب....
وتنك: تقصد وطنك فالجنوبيون ينطقون الطاء تاء لثقلها.
الوازا: الة من الات العزف المحلية الصنع تصنع من سيقان السنابل

الطيب عبد السلام حاج علي...22 ابريل2011

الأحد، 22 نوفمبر 2015

عماد البليك

طريق إلي بلد آخر
قصة قصيرة





تحت شجرة الظهيرة يستلقي الرجل كما لو أنجز كل المهمات الصعبة.. يراجع الدفاتر القديمة المنسية، في ذاكرة مشوبة بالأمنيات والقلق.. ثم يغلق باب الحيرة بنسيج من الوله والغرابة.. لا يتذكر اسمه ولا عنوانه ولا عمره ولا قافلته التي حملته في العتامير والصحارى البعيدة.. قلبه ينبض وشوكته تئن.. هو أسير الأزمنة الأولى التي لا يعرف مبتدأها ولا نهايتها.. هو المسجون في قفصه الصدري حيرة وإرباكا.. هو ليس مجنونا ولا عاقلا.. هو متنزه في مجلسه الصغير.. في أفكاره.. ودماغه الملعون بالطيش منذ متى؟.. لا يتذكر.. ولا يعرف أيضا ما الذي يشغله.. ولا إلى أين الطريق؟.. وأحيانا تغيب عنه الحقيقة.. إن كانت هي حاضرة في ذهنه.. هل هو حيوان أم إنسان أم نبات متسلق في بيت طيني قديم على ناصية زقاق مسدود بأكوام من الزبالة التي تنتظر دورها في ترميم البيت..هل كان هو ذلك الزبال الذي يقوم بالمهمة ويقبض الجنيهات العشر؟..ربما.. يحتاج إلى من يتذكره.. أو يذكره.. لكنه يغفل الفكرة.. ويسرح بعيدا في تفاصيل الزقاق؛ فيه بضع أشجار.. وبضع رجال يجلسون على الظل على تلة من الأحجار المجلوبة من المقابر.. وهم يحتسون العرق تحت ضوء القمر.. ومن بعيد يسمعون صوت مذياع ينبعث من أحد بيوت الزقاق.. صوت فنان أرهقه الدهر لكنه مصرّ على الغناء. كان في شبابه نجم زمانه.. واليوم لا أحد يتذكره.. حتى هو نسي نفسه.. هل هو ذلك المغني، ذلك الفنان الذي كان.. ليس متأكدا أيضا.. وساعة تعجز عن تحديد من أنت، وما هيئتك في هذا الوجود فتلك حيرة كبرى.

على أية حال.. سيقبل بالواقع.. على أنه جزء من تفاصيل هذا الكون المربك.. على أنه حجر أم شجرة أم سلحفاة أم بيضة ديناصور منقرض.. لكنه يشعر بألم في مكان من جسده.. يحتاج إلى طعام لكي يسكت الألم.. لو كان حجرا هل كان سيحس بالألم.. ليس متأكدا.. كان إلى جوار حجر كبير تحت الشجرة..
يسأله: هل أنا منك؟..
لكنه لا يسمع سوى صداه ينبعث من أعماقه.. يفكر أن عليه أن يكون شجاعا ويواجه نفسه بالحقيقة.. هو إنسان بلا ذاكرة، وبلا عنوان، وعليه أن يبحث عن معنى لوجوده في الحياة بأن يبدأ الآن في ترتيب الأشياء.. يختار اسمه وصفته ومهنته، وهو الذي لا يتذكر أي مهنة كان يمتهن.. كما أن خبراته القديمة لا ذكرى لها.. الحمد لله أن يمشي ويتبول ويأكل.. رغم أن العثور على الطعام مهمة صعبة.. ففي هذه المدينة التي جاءها لا أحد يمنح شيئا دون مقابل.. لا أحد يتوقف ليترحم عليك أو يسألك ماذا تريد أو يرد على تحيتك لا بأحسن منها، ولا أقل من ذلك.. الصمت.. العجلة هي التي تسيطر على الجميع.. الكل مهرولون إلى أشغالهم وعائدون منها.. الكل مشغول.. الكل مرتبك.. الكل خائف.. الكل ملعون..
لا يعلم من تفاصيل المكان سوى أنه تحت شجرة ظهيرة، ينظر هل سيرى زقاقا. فلا يرى سوى البشر الهاربون إلى المكاتب والشركات والبيوت المتراصة فوق بعضها البعض، في بنايات عالية، بعضهم يقود سيارات وبعضهم يترجل.. نساء ورجال وأطفال وشيوح.. من كل حدب ينسلون وليس ثمة علامة على إمكانية للتفاهم معهم.. يبدو ان لهم لغة مختلفة فالكلمات التي ينطقون بها غير مفهومة بالنسبة له، وأي لغة كان يتحدث "هو" لا يتذكر.. فقط يمكنه أن يتحدث مع دماغه، مع تلك الجهة المجهولة في غيب بدنه، ثم يحاول أن يترجمها لكلمات فيعجز، كيف سيتفاهم معهم، سيكتفي إذن بالإشارة كأصم أبكم. ويتأمل سحنتهم هم ليسووا غريبين عنه، بشرة سمراء، وعمامات وجلابيب، سيتذكر بصعوبة أنهم أبناء جلدته، لكن لماذا هو عاجز عن فهم لغتهم. ما الذي جرى له أو لهم. هل هو في حلم، في أضغاث منامية، فإذا كان ذلك فسوف ينسى كل شيء بعد قليل ويضحك طويلا. سيحاول أن يستيقظ أن يصدق أنه يحلم وعليه أن ينهض من سريره أو من منامه في مكان لا يتذكره داخل الحلم.. لكن هذا الحلم طويل على ما يبدو.. حلم يشبه حياة طويلة جدا، حياة مقلقه وقاسية.
ما الفرق بين النوم واليقظة؟ لقد خطرا بباله لكنه لم يفرق بينهما!
ما الحياة داخل حلم، وما الحلم داخل حياة.. يتذكر بصعوبة دونما حاجة للغة يتذكر بها انه كان في عالم ما.. وهناك كانوا يفصلون بين حياتين.. حياة اليقظة.. وحياة المنام.. لكن أيهما الحقيقة.. أين الظل وأين الشجرة؟!.. يقف على قدميه ويسير لخطوات.. يقارن بينه وبين من حوله ساعة يكتشف ان النظرات تلاحقه.. فيكتشف انه عليهم أغطية وهو مجرد منها.. هو إذن عار..
ويسرع أحدهم فينهال عليه بعصا.. الجميع يعرفون إنه شرطي.. لكنه "هو" لا يعرف.. فقط سيشعر بالألم ويبدأ في الصراخ.. اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمة.. والجميع حوله يضحكون.. ويبدأ في الشعور بالفرح وسط الألم.. فهاهو سيبدأ الآن في فهم لغة بنى جلدته.."إنه الضحك" سيقول لنفسه.. أيضا دونما حاجة للغة أو إدراك أن "ض ح ك " هي كلمة أو مفردة من شيء اسمه اللغة.. هو أمر مفهوم.. متبادل مشعور.. لكن إذا كان فهمه وفهم الألم فسيفهم باقي مفرداتهم وتفاصيل حياتهم قليلا قليلا.. شيئا فشيئا.. هو جائع ومتألم والشرطي يحمله إلى مكان ليس بعيدا، وجمهرة من الناس تنقاد وراءهما.. ويدخل به من بوابة كبيرة مشخبط عليها بعلامات يتذكر ان لها معنى في ذلك العالم القديم الذي كان ينتمي له، لكنها الآن لا معنى لها.. هي أشياء مغفلة ومنسية وغبية.
يدور حوار بين الشرطي ورجل يجلس وراء طاولة مترهلة قديمة منهكة بالية لا جدوى منها سوى أن الرجل يسند ساعده عليها ثم يقف ويحمل العصا ويبدأ في ضربه.. يالهذا الحلم المزعج.. متى استيقظ منه؟ يا لهذا المنام الطويل.. ولكن لا جدوى!..
عليه إذن ان يصبر.. وان يسكت لانه لن يقدر على التفاهم بسوى الهمهمة والصراخ والإشارة باليدين، في إشارات غير مفهومة البتة لهذه الكائنات التي ستبدو غربية منه رغم تذكره الآن بدرجة أوضح انه ينتمي لها، فقد أدرك انه يشبهها في الشكل.. فهو يعرف الآن أنه لم يكن يشبه ذلك الحجر ولا تلك الشجرة.
سيحاول أن يفهمها أن يتألم لكنهما يقيدانه الآن بحبال متينة ويقودانه إلى غرفة صغيرة ثم يرميان به وهو يتألم ويصرخ ويتمادى في الضحك وحده بعد أن يبدأ الألم في التلاشي ساعة يسد الباب ويبدأ ضجيج الخارج في الخفوت وتغيب الإضاءة كأنما المكان مظلم أو هو كذلك أو أن الشمس قد غربت.


الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

صباح سنهوري


العزلة
صباح سنهوري


.

القصة الفائزة بجائزة الطيب صالح

الجو حار، حار جداً وخانق. لا يوجد شيء سوى هذه الطاولة التي أنام عليها، هنالك أربعة أبواب لهذه الصالة واثنتا عشرة نافذة. هذه الصالة على شكل مستطيل، يوجد في كل ضلع باب، في الضلعان القصيران توجد نافذتان بحيث يكون الباب بينهما، وفي الضلعان الطويلان توجد نافذتان يسار الباب واثنتان عن يمينه.
البلدة خالية، تماماً، إلا من صوت أفكاري الشاردة مني حتّى الغضب. وحدي أنا في الصالة، وحدي أنا على الطاولة، وحدي أنا في البلدة، وحدي أنا من لا يشتهيه الموت. متمدِّدٌ على الطاولة الخشبية التي أوشكت خلايا نخاعي من البناء عليها ومن ثمّ الاندماج. النهوض يتطلب مني جهداً جباراً، فهو يشبه إلى حدٍّ كبير انسلاخ الثعبان عن جلده. أحاول جاهداً النهوض. (والآن، تُرَى أين وضعت الصندوق؟!. إنه بالخارج حتماً). خرجت من الباب الذي يقع في إحدى الضلعان الطويلان فالطاولة تقع في منتصف الصالة، لذا، فكون الخروج من أحد البابين اللذين في الضلعين القصيرين سيضاعف مقدار الجهد الذي أبذله.
في الخارج، كان الجوّ حاراً كما في الداخل تماماً، ها هو الصندوق قابعٌ بالقرب من الباب؛ لست أدري من أين أتى، كل الذي أعلمه أنه، منذ أن بدأت ألملم أطرافي، رأيت هذا الصندوق، وهو يحوي زجاجات من الخمر المعتّق. لم يعد هذا الخمر يجدى نفعاً، فلا شيء أصبح يؤثر على عقلي، كنت أعتقد في قرارة نفسي أنه ربما بعض الخمر تَفِي بالغرض، ربما أتذكر شيئاً، أي شيء. ربما أتذكر على الأقل من أنا؟، ما اسمي؟، من أين أتيت؟، ما هذا المكان؟، أين ذهب البقيِّة؟، ومن هم البقية؟.
الجو حار، حار جداً وخانق، وكأن هذه البقعة هي المكان الوحيد الذي وُظِّفَت الشمس لأجله، وفي هذا المكان وصل الهواء إلى سنّ التقاعد، وربما لَقِيَ حتفه. تناولت زجاجة خمرٍ وبدأت بالشُرْب، رميت الزجاجة جانباً. مازلت بكامل وعيي. خطرت ببالي فكرة، وهي أن أطوف بهذه البلدة، بدأت في السير على الطريق، ترى أين البشر؟. لكم أتمنى الآن أن يظهر أمامي كائنٌ من كان؛ إنساناً، حيواناً، سواء كان ذلك الحيوان مُستَأنَسَاً أو خَطِرَاً. لماذا أنا وحدي هنا؟.
البلدة هادئة، ساكنة، لا أسمع أيّ صوت سوى صوت دقات قلبي. دخلت إلى أحد المنازل، كان الباب غير موصد من الداخل ولذا كان من السهل عليَّ الدخول. المنزل مظلم قليلاً ولكن تسهل فيه الرؤية، ياله من أثاث جميل ومرتَّب. لمحت بعض الصور التذكارية على الحائط، يبدو أنها لأفراد هذه المنزل. ياله من صبي جميل، أهؤلاء والداه؟، يبدو ذلك. ترى أين هم الآن؟!. فجأة أحسست بقشعريرةٍ باردةٍ تسرى في كامل جسدي، عندها فقط قررت الخروج من هذا المنزل.
واصلت سيري في الطريق، المنازل على جانبي الطريق، تبدو هادئة تماماً. ما هذا الشيء هناك؟ إنها طاحونة هوائية، ياللسخرية!!، طاحونة هوائية؟!، يبدو أنهم بنوها قبل أن يتقاعد الهواء. إذن فقد كان الهواء مُوَظَّفاً هنا!. ترى هل يوجد أحد بداخلها؟. دلفت إلى الداخل، أرى عدداً من بيوت العنكبوت هنا، حتى بيوت العنكبوت تبدو مهجورة. ولكن أين العنكبوت؟! تَلَفَّتُّ حولي، يوجد العديد من جوالات الدقيق، وهذا الوعاء مليء بحبوب الغلال التي لم تُطحَن بعد، لا بد أن يوجد أحد هنا. أجل، فمن غير المعقول ألا يوجد بشر، واحد على الأقل، حسناً، عنكبوت واحد فقط، لا بأس يكفيني جرذ واحد، أرجوك، حسناً، سأنادي بأعلى صوتي علَّ بعضهم يستيقظ، لن أكون طماعاً يكفيني أن أقول (علّه) يستقيظ. حسنٌ سأنادي.. يإلهي؟ كيف أنادي؟ لماذا لا تخرج الكلمات من فمي؟!. لا بأس فلتخرج الحروف متقطعة، أوه لا، تُرَى بأيةِ لغةٍ أتحدث؟. أدرك تماماً أنني أجيد الكلام، فأنا أفكر دائماً بهذه اللغة، ولكني أتحدث بها إلى نفسي، من داخلي، وليس من فمي. لم أتحدث إلى أحد منذ فترة طويلة ولا أتحدث إلى نفسي بصوتٍ مسموع، هل هذا لأنني أخاف من أن أوصف بالجنون أم لأنني أخاف من أن يسمع أسراري أحد؟!. ليتهم يصفونني بالجنون، فقط يظهروا أمامي ويصفوني بالجنون، عندها سأبلغ قمة السعادة.
لو كنت تذكرت أن الناس تتجمهر، لتنصَّت إلى من يُحَدِّث نفسه ليتناقلوا حديثه فيما بينهم، لتحدثت بكل لغات الكون وبأعلى درجةٍ أملكها من الصوت، ربما كل هذه الأشياء تجذب البشر، ولكن لا جدوى من ذلك الآن، فقد فقدت أملي الأخير. فقدت صوتي للأبد. خسارة. مؤكد أن هذه الأشياء تجذب البشر كما يجذب العسل النمل. ماذا؟! هل ذكرت كلمة عسل؟!، أجل، أذكر أنني رأيت عسلاً في ذلك المنزل الذي دخلته، أجل؛ العسل، النمل، وجدتها، أجل وجدتها. خرجت من تلك الطاحونة الهوائية وجريت بسرعة إلى حيث المنزل، فتحت الباب وأسرعت إلى الداخل. أحاول التذكر: أين رأيته، أجل، هاهوذا.
أخذت العسل وخرجت به إلى الطريق، إنها مُحْكَمَةُ القفل، ولكنها لن تكون صعبة على إنسان قد أوشك على فقدان الأمل وظهر له الأمل فجأة من بعيد. بالطبع أنا الآن أقوى من جبل، ها هي العلبة مفتوحة بين يدي. تذوقته، إنه جيد لا بأس به، فلا زال يحتفظ بطعم العسل. أمسكت بالعلبة، بدأت بالسير على الطريق وأنا ممسكٌ بالعلبة والعسل يتدفقُ منها. أوشك العسل على النفاد. جيد، هذه الرقعة تكفي. انتهى العسل، لا بأس، فهذا يكفي. والآن سأنتظر النمل، أرجو ألا يطول الإنتظار. لا، لن يطول انتظاري فأنا أعلم جيداً أن تلك النملة النحيلة، والتي تمتلك حاسة الشم الأقوى في مملكتهم، ستشتمّ رائحة العسل، وستخبر جميع أفراد المملكة بذلك، وما هي إلاّ سويعات حتى أرى النّمل؛ عندها فقط سأبلغ قمَّة السعادة وأنا أستمتع برؤية ذلك الكائن الحيّ، الصغير، الجميل. أخيراً يمكنني أن أرى شيئاً تدبّ الحياة في أوصاله، سأجلس وأنتظر. لقد أوشكت الشمس على المغيب ولم تظهر تلك الكائنات. لا بأس، سأنتظر، لا يوجد ما يمكن أن أفعله غير الانتظار.

لا زلت أنتظر، سيأتي، أعلم جيّداً أن النمل لا يمكنه مقاومة العسل، لذا سأتظر.

لقد طال انتظاري؛ فها هي الشمس قد بدأت تُزاولُ عملَها اليوميّ. لن أنتظر مجدّداً، سأعود إلى الطاولة، لقد اشتقت إليها كثيراً، ليس من عادتي أن أقضي الليل بعيداً عنها، حتّى أنني أُحس، الآن، بتقرّحاتٍ على ظهري تُشبه، تماماً، تلك الجروح والتقرّحات التي تُصيبُ من بُتِرَت أيديهم أو سيقانهم عن بقيّة الجسد. لم أضلّ طريق عودتي إلى الصالة. أخيراً طاولتي. أحاول جاهداً احتضانها. أخذت أحتضنها من كلّ جهةٍ من جهاتها الأربع، أقبّلها، مارست نشاطي الوحيد: التمدّد عليها. آه، أخيراً، أحسُّ بنوعٍ من السكينة والطمأنينة، حتّى أنني لم أعد اشعر بتلك الجروح والتقرّحات.

متمدّدٌ أنا على الطاولة، أمارس موهبتي: أحلامي؛ يبدو أن انتظاري للكائنات الحيّة وتشوقي لرؤيتها قد أثَّر عليها. أحلم، وأنا أحدّق في السقف بشرود، دون انتباهٍ لتفاصيله، أحلم أنني كائن أخضر صغير، حقير، تافه، لزج، بدائي، وحيد الخلية. أشعر بأن عينان كبيرتان هلاميّتان مقززتان أحملق بهما يمنة ويسرى دون أن ألتفت، أغمضهما تارةً وأفتحهما أخرى بترتيب منتظم. ما ذاك الثقب؟، إنه على السقف!، يعني ذلك أن حلمي قد انتهى، أرجو أن لا يعاودني ثانيةً، لأنني، حينها، شعرت بشعور سخيف وغريب.

ترى، هل مرّت الحرب من هنا؟. إذا مرّت، ولقي الجميع حتفهم، لما لم ألقَ حتفي أيضاً؟. إن حدث ذلك أين الجثث؟. وإن مرّ وقت طويل على ذلك، أين بقايا عظامهم؟. سَرَت تلك القشعريرة الباردة في جسدي مرة أخرى، لا أخفي عليكم سراً أنني، عندما تشتدّ الحرارة بصورةٍ تُثير غضبي، كنت أجترّ مثل هذه الأسئلة الجالبة، طبعاً، لتلك القشعريرة الباردة التي تزيل معها قَدْرَاً جليلاً من الحرارة وتلطّف الجوّ. كنت أستمتع بذلك وأعتبر نفسي ذكيّاً، فقد كانت الحيلة الوحيدة التي أُجيدها. ولكن، بعد تكرارها، أظنني قد أَتْلَفتُ جزءً من خلايا المخ، خاصّتي، وأفلتت تلك الحيلة من لجامها، ولم أعد أستطيع التحكّم بها، فأصبحت تأتي عندما يتملّكني ذلك الشعور الغريب بالغرابة.

مجدداً، وحدي في الصالة، على الطاولة، في البلدة، وحدي من لا يشتهيه الموت. متمدّدٌ على الطاولة التي أوشكت خلايا نخاعي على البناء عليها، ومن ثم الاندماج.

وصلت في قرارة نفسي إلى: بما أنه لا يوجد من يؤانسني في هذه البلدة، إذاً لا بدّ من إيجاد شريك بكافّة الطُرق والوسائل، فوصلت إلى أن أنقسم انقساماً خياليَّاً إلى كائنين؛ أحدهما (أنا) والآخر (هو). إنه يشبه صورتي المنعكسة على زجاجات الخمر المعتّق. حسنٌ أيها الكائن الوسيم، ماذا سأدعوك؟، ليست لديّ أدنى فكرة عن الأسماء الآن، ولكن ما رأيك بأن أكون (أنا) وتكون أنتَ (هُوَ)؟. ألمح تعابير الغضب على قسمات وجهه.
-لمَ لا أكون (أنا) وأنت (هو)؟.
-لأنني الأصل يا حبيبي.
-بل أنا الأصل، وبدوني لن تستطيع العيش هنا.
-حسنٌ، لا تغضب أيها الكائن، أنا أكثر منك تجربةً، ومعرفةً؛ أعرف جميع معاني الكآبة، الخوف، الرعب والغرابة، لذا لا تهمني توافه الأمور. لا بأس، سأتنازل لك، سأكون (هو)، وستكون (أنا). هل أنت سعيد الآن؟.
-لم نتفق على كل شيءٍ بعد.
-ماذا تقصد؟.
-أريد، أولاً، تلك الزجاجات التي تحوي الخمر المعتّق.
-ماذا؟!.
-وإلا لن تجدني ثانيةً، وستعاني من الوحدة.
-أوف، هل هذا ابتزاز أم ماذا؟. لا بأس. لك ذلك.
-وأخيراً يا عزيزي، إبحث لك عن مكانٍ آخر لتنام فيه غير الطاولة، لأنني سأنام عليها من الآن فصاعداً.
-إلا هذا!!. لن تناله ولا حتى بأحلامك النهاريّة، لن أتخلى عن طاولتي، لن أتخلى عن جزءٍ منّي، ألا تفهم هذا؟.
-ولكنك تخلّيت بالفعل عندما أوجدتني، لذا لا أظنّ أنه من الصعب عليك التخلّي عن الطاولة. ثم أنك تتخلّى عنها لجزءٍ منك!.
-لاااااااا، أنت لست جزءً مني، الطاولة هي جزء مني؛ أمي وأبي وأهلي والبقيّة. الطاولة أنا. أنت لست سوى وهم، لست سوى صورتي المنعكسة من على زجاجات الخمر المعتّق.

لقد فاض بي حقّاً، رميته بكلّ زجاجات الخمر على وجهه وأنا أصرخ: (إذهب أيها الكائن الهلامي الغريب، إذهب إلى الجحيم. هيا، هيا). اختفى ذلك الكائن الذي يُشبه صورتي، نظرت إلى الطاولة بحنان، أسرعت، استلقيت عليها. (لا تخافي، لن يأخذني منك شيء، حتى الموت؛ أنت تعلمين أنني لا أنزلق في أمعائه، وتعجز انزيماته عن هضمي. غريبةٌ أنت مثلي في هذا المكان، وأنا أحبّك.
لأول مرة أغطّ في نومٍ عميق، حلمت بأنني ذلك الشاب الذي في الأسطورة. كان يتمدّد قرب البحر ويتأمل صورته المنعكسة على سطحه. أما أنا، فقد كنت مدّداً على الطاولة، بالقرب من البحر، أتأمل صورتنا _أنا والطاولة_ المنعكسة على سطحه. الشاب عاقبته الآلهة بأن حوَّلته إلى زهرة في ذات مكانه، نحن حوّلتنا إلى زهرتين جميلتين.
صحوت من النوم، ظللت أتطلع إلى السقف بمزاج جيّد، رويداً رويداً بدأ ذلك المزاج الرائق بالاضمحلال، فما زلت وحدي في الصالة، على الطاولة، في البلدة، وحدي من لا يشتهيه الموت. متمدّدٌ أنا على الطاولة الخشبة التي أوشكت خلايا نخاعي من البناء عليها، ومن ثم الاندماج.
أحاول الرجوع إلى ذاك المزاج الرائق الذي يحمل نكهة الـ.. لست أدري!، أحاول، يبدو أنني فقدته. حسنٌ لا زلت أدّخر بعضاً من أحلامي. لا. لا أريد أن أكون ذلك الكائن. يبدو أنه ما من خيارٍ آخر. حسن لا بأس. أنا الآن كائن أخضر، صغير، حقير، تافه، لزج، بدائي، وحيد الخليّة. لديّ عينان كبيرتان هلاميتان مقززتان أحملق بهما يمنة ويسرى دون أن التفت. أغمضهما تارة، وأفتحهما أخرى، بترتيب منتظم

الأربعاء، 14 يناير 2015

أستيلا قايتانو

(بحيرة بحجم ثمرة الباباي)






كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع .. طولها الفارع ، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها .
لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره . أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:
- يكفي أنني اتنفس به ..
كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة ..
الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء ، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم ، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت :
يبدو أن أفعى لدغتني ، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها ..

ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء :
- هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة .
و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .

كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..

كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :
نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟
رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب :
أسرعي أريد أن أرضع.
قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.
لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟
عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق :
- أتعلمين قصة موت جدك؟
- لا ياجدتي
رغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .

لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .
فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..
ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها .
كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.
ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص ..

كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث :
- أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟
في الحلم؟
- لا .. بل في الواقع ..
و لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟
- رأيته في صورة تمساح .. ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .
وكيف عرفتِ أنه جدي؟
- من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط
عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح ..

و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟
لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر .
و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية ، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح..

الاثنين، 12 يناير 2015

محمد خير عبدالله

حكاية القاص سين







تقرفص القاص سين ،كطفل يتوقع صفعه لخطأ أرتكبه، وهو يطالع أعلان احدي الشركات عن أطلاق جائزة كبري ،جبينه التصق بالطاوله يفكر ،طاوله ذات ثلاثة ارجل ،علي سطحها بقايا طعام رائحته تزكم ، وعليها أيضاً نتف أوراق ،بعضها فقد عزريته بخربشات أقلام مختلفة الالوان، موخرة احد الاقلام الان بفم القاص سين الأبخر ، بياض أحدي الوريقات انعكس كتاريخ لمناضل لم يسجل بعد،مج القاص النفس قبل الاخير من سيجاره اجتهد في شرائها ، غافل امه ، وادخل يده النحيله –لم تكن يده بيضاء- في محفظتها ، باصبعيه السبابة والابهام نشل ثمن السيجاره،:ساعيدها لها قال ، امسك القلم ،بنفس يده المعروقه التي سرقت محفظة أمه، تخيل أن القلم الذي ابتل بلعابه، يحثه :اعلن ثورتك علي الورقه،. وهاتف بداخله يخاطبه :هذه الوسيلة الوحيده لأسترجاع ماسرقته ،حدق في الورقة ،التي كان طرفها مستباح قبله بقلم رصاص ، تحركت يد القاص تجر القلم علي سطورالورقة المتعرجه ،ليكتب قصة يشارك بها في المسابقة الكبري ،تذكر أن الموسسه التي اعلنت عن المسابقه تمتلك من الاموال ما يساوي جهل اصحابها، أستحضرهيئة ذلك المثقف الذي وسوس لها بفكره المسابقه،نفث بحنق يسبه "نزل" اعاد بصره للورقه التي داعبتها الريح، أمعن النظر فيها يستحلب ذهنة عله ينجده بفكرة ينال بها الجائزة، تذكر نصيحة صديقة القاص الحاقد: أن البداية من الكاتب والنهاية من الله ، سأله : حتي لو كانت بداية غير موفقة من الله ؟ رد القاص الحاقد بحزم : نعم ، أطفا القاص سيجارته منتظراً البداية ، جال بخاطره، ورقه شبقه، ، ضحك،وقال ضاحكاً :ورقه شبقه،انهي ضحكته وهمهم: فكره جميله، سأكتب قصه عن شبق الورق، امعن النظرفي الورقه ، ذاكرته قادته الي بنت الجيران الشبقة ،كما قالت امه عنها حين رأته ذات مساء يقف معها، قهر الذاكرة وعاد لكرفسته وبصره علي الورقة ،استفذه بياضها ، تخيلها انثي تناجي فحلاً ،قائله، :هيت لك ، اخرج القلم من فمه نقربه نقرات عده علي الطاولة، تطايرت بقايا طعام علي جسده ،نفضها بيده اليمني و يده الاخري علي هامة راسه،تنهد مهمهماً :لن اكتب عن الشبق الورقي ساكتب عن الشركه التي أعلنت عن الجائزة ،وأزعم انها شركة رائده واصحابها رمز النزاهه وليست لهم كروش، همهم متراجعاً :هذا نفاق ساوسم به ،منافق غني خير من مناضل فقير، هذه حكمه تجهر بها جدته، ويساندها شقيقه الاكبر، تنهد القاص :لا ساكتب قصه عن جدي، قصته اكاد احفظها ، مجملها انه من ابطال المهديه وقتل الكفار وشارك في مصرع غردون، كما زعمت جدتي، نعم ، كان اخي يعقب عليها هامساً بأذني(غردون الذي قتله جدي هو كلب الجيران لسعر اصابه) وانا لا اصدقه ولا أنحاز لخيال جدتي، لسبب اعرفه، ان جدي مات بمرض تافه لا يقتل عصفور، اذكر ذات شقاوة سالت جدتي وبيدي كتاب يزعم ان جدي ورهط اخر من جيله مات بالملاريا ،هل مات جدي بالملاريا ياجدتي؟ ترد علي خبثي :مالها الملاريا ؟ اكاد اضحك ، بمرير التجارب تعلم مكري، وتواصل :ملاريا زمان ياولدي، وتسترسل تلعن زمني وامراضه .لن اجادلها بقول أخي :ان غردون ليس شخصاً يفتخر بقتله احد ،لأنها موقنه انه من قوم شيمتهم القوة؟ ولن اخبرها بحديث صديق لي : ان غردون كان يمنح دبره للرجال،الكاتب وهو مازال متكرفس ،همهم ،لن اكتب عن جدي بل ساكتب عن حبيبتي التي هجرتني وهذا ما جعلني اختار اقبح امراه واتزوجها،،تراجع القاص وزادت الانحناءة بظهره، لا لن أكتب عن حبيبتي بل سأكتب عن زوجتي الدميمة، واجعلها أعجوبة زمانها ،أعجب القاص بالفكره وهم بالانكباب علي الورقه ، تذكر ان زوجته ستقرأ القصه، ستحيل حياته الي جحيم :هل انا اقبح امراه ، ؟ سيضطر للكذب الذي تعوده، فيها، انت اجمل فتاه عرفتها، تسقط من بين اسنانها ضحكه حميريه الصوت ، تحركت يده وامسكت بالقلم مج نفسًا من سجارته اليتيمه،انجليزيه الصنع ، ضحك وطيف خواجات تراء له جميعهم ابطال كما يقول التاريخ عبر اسطر كتب مدرسيه،وجدتي تقسم بجدي انهم شجعان ،والتاريخ السري للمدينه يزعم انهم ابناء مواخير وساقطي هامش، دفعت بهم اطماع ارباب مصانع وكهنه كنائس ليستبيحوا ارضنا ، انتفض ضدهم جدي وامثاله ، رحلوا وتركوا اثار منها هذه السيجاره اللعينه ، تنهد القاص :صدقت جدتي، ان جدي وجيله هزموا الفرنجه الذين هزمونا نحن، تنهد سانتصر علي هذه الورقه ،ساكتب فيها عن جيش تقوده سيجاره ، ضحك الكاتب وغادرت الانحاءة ظهره، لفكره مشاهده سيجاره ترتدي زي كاكي اللون وتتمنطق بحزام، ومسدسها مدلي من الفلتر ، انها فكره عبقريه سأنال الجائزه ، بثمنها اعيد لامي ما سرقته من محفظتها ، انزل القلم بهمة مناضل ،علي الورقه ،انتفضت الورقه انتفاضه كالتي تحدث في بلدان العالم الثالث، نتيجتها اناشيد ، لشئ لا اعلمه ماتت رغبه الكاتب وعاد لكرفسته الاولي وعلي الطاوله وورقه صرعي وقلم ينتحب وعقب سيجاره تحت الطاوله ،ورماد علي ركبة الكاتب المعروقة. 

عبدالعزيز بركة ساكن



أنا،
 الأخرى و أمي.



عمري الآن خمسون  عاماً، وهو نفس عمر  أمي  حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنةً بالكمال و التمام، وأحكي الآن عنها ليس من أجل تخليد ذكراها الثلاثين، كما يفعل الناس أن يحتفوا بذكري وفاة أمهاتهم اللائي  يحبون، ولو أنني أحبها أيضا إلا أنني أحكي الآن عنها تحت ضغط و إلحاح روحها الطاهرة، أقول ضغط و إلحاح، و أعني ذلك، على الرُغم من  أن أمي ماتت منذ أكثر من ربع قرن إلا أنني لم أحس بأنها ميتة، لأنها بالفعل لم تكُ كذلك، إنها أخذت إجازة طويلة ونهائية  عن مشاغل الدنيا الكثيرة و مني أنا إبنها الوحيد بالذات، رفيق شقائها و سعادتها، ولكن أمي حالما تراجعت- مع مرور الزمن- عن فكرة الإجازة بعد ثلاثين عاماً فقط، وثلاثون سنةً في زمن الموتى- كما تعلمون- ليس بالكثير، يُقَال أنّ موتهم قد يطول إلي الأبد.
بالأمس القريب بعدما قضيت نهاري الطويل في المدرسة حيث أعمل مديراً  في مرحلة الأساس، وأنفقت مسائي البائس في نادي المعلمين ألعب الورق و أثرثر، عُدت مرهقاً للبيت الذي  أقيم فيه وحدي، بعد أن تزوجت أكبر بُنياتي في هذا الأسبوع وذهبت مع زوجها تدب في بلاد  الله الواسعة، مثلما فعلت إبنتاي اللائي يصغرنها عمراً في السنتين الماضيتين، وتزوجتَ زوجتي أيضاً قبل أكثر من عشر أعوام من رجل يقولون إنه حبيبها الأول، بالطبع بعد أن طلقتني عن طريق محكمة الأحوال الشخصية بدعوى أنني لا أنفع كزوج أو رجل و أنها  كرهتني، ويعلم الله أنني لست بالشخص البغيض، و الدليل على ذلك  أن بناتي الثلاث إخترن أن يبقين معي في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلي بيت والدها ثم إلي بيت زوجها الجديد: فمن منا البغيض  و المكروه؟ هذا موضوع لا أحب أن أتطرق إليه إطلاقا، فهي على أية حال أم بُنياتي الثلاث، كنت مرهقاً، زحفت إلى سريري زحفاً، رميت بجسدي علي اللحاف الطيب الحنون، فهو آخر ما تبقى لي من أمٍ وزوجةٍ و بنات، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان بإحتضانه لجسمي النحيل الهرم، كعادتي أترك أضاءة خافتة فاترة تصدر من لمبة ترشيد إستهلاك صينية صغيرة بخيلة، إلى الصباح، و كدت أن أغمض عينيّ حينما سمعت كركرة كرسي على البلاط ثم رأيت على ضوء النيون الترشيدي الصيني البخيل، امرأة شابة تسحبه نحوي ثم تجلس عليه، قرب رأسي مباشرة، تحملق في  وجهي بِحِنِيةٍ لا تُخْطَأ، ولو أنه كان لوحيدٍ مثلي أن يخاف، بل أن يُجَن من الخوف، إلا أنني صحت في دهشة وترحاب غريبين.
-         الله، أمي آمنة؟
ابتسمت المرأة الشابة الجميلة الحنون، وقد بدأت تتحدث في هدوء، حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة و الثانية، حدثاً حدثاً، أخذت أستمع إليها في صمت وتعجب، كأنما من يُحكى عنه ومن يُحكى له ليس سوى صنوين لي ضالين، كنت اكتشف تدريجيا أن حياتي كُلها  معصية، و أنني كنت أجري وراء ملذات الدنيا وسقطاتها، ولو أن بعض الحوادث كانت تشير بوضوح إلى نُبلي ونقاء سريرتي، إلا أن المحصلة النهائية تبدو كما ذكرت،لا أدري كم من الزمن مكثت تحكي قرب رأسي، ولكنها بلا شك بقيت هنالك زمنا طويلاً، ولا أدري كم حكاية حكت، ولكنها بلا شك حكت حكايات شتى، و لا أعرف متى نِمْتُ ولكني بلا شك قد نمت متأخرًا جداً لأنني لم أستيقظ كعادتي - مثلي في ذلك مثل كل مديري المدارس - عند الرابعة صباحاً، بل أيقظني خفير المدرسة – مندهشاً- في فسحة الفطور حوالي العاشرة و النصف صباحاً، وثأثأ فيما يعني أنّ الجميع إفتقدني، لقد كان أخرس ذا لغةٍ ملتبثة. بقيت في رأسي جملة واحدة من كلامات أمي.
-         أنا كل يوم معاك لحظة بلحظة.
لم أحك لأحد ما دار بيني و بين أمي، خوفاً من السُخرية و الشماتة  أو أن أُتهم بالجنون، وربما قد أفقد وظيفتي إذا تأكدت الإدارة من أنني جُنِنِت،وخاصة أنّ  للبعض مصلحة في أن أُبعد، بصراحة  لديّ أعداء كُثر، تكتمت علي الأمر، إتصلت بي ابنتي الكبرى أمونة سميتها على أمي، سألتني عن صحتي و عن الوَحدة ولمّحت لي بأنه يجب عليّ أن أتزوج ولو من امرأة كبيرة في العمر، لأنني - في تقديرها- إحتاج إلى رفيق في وحدتي، و أنها تعرف أربعينيةً جميلةً  مطلقةً لها طفلان،إدعيتُ بأنني لم أفهم ما ترمي إليه، ربما لأنني لا أرغب في الزواج،فقد أصبحت المرأةُ عندي كائناً جميلاً، يَصْلُح لكل شيء ماعدا الزواج،في هذا المساء كنت مستعدا لمحاضرة أمي آمنة، جاءت وكانت في كامل شبابها و جمالها في أثواب نظيفةٍ ملونةٍ  زاهيةٍ تشع بهجةً، قالت لي
-         ظاهر عليك الليلة جاهز من بدري.
فجأة  خطرت لي فكرةٌ غريبةٌ، و شرعت في تنفيذها مباشرة، هكذا أنا أفكاري في أصابعي، مَدَدتُ أصابعي نحوها متحسسا أثوابها، فإذا بكفي تقبض الهواء، تمام الهواء،أما هي فقد اختفت، سمعت نداءها يأتي من أقاصي الغرفة،قائلة بصوتها الذي لم يفقد حلاوته طوال السنوات التي قضتها تحت التراب.
 -         أنا صورة وصوت، صورة وصوت  فقط.
قلت لها
-         أنا خايف تكون دي هلوسة...هلوسة  ما أكتر؟
قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيداً و صاحبني طفولتي كلها
 -         أنا كنت دايماً قريبة منك.
أمي و أنا كنا صديقين حميمين، مرت بنا سنوات شدة عصيبة و سنوات فرح عظيمة أيضاً، أنا ابنها الوحيد ولا أب لي أعرفه إلي اليوم، منذ أن تفتحت عيناي علي هذا المخلوق الرقيق النشط الذي لا يستريح من العمل الذي يسعي مثل نمل الأرض بحثا عن حبة عيش نطعمها معا،كانت توفر لي كل شيء أطلبه، ومهما كان عصياً وأذكر أنني طلبت منها ذات مرة أن تشتري لي دراجة هوائية مثلي مثل صديقي في المدرسة و الصف و الكنبة : أبّكَرْ إسحق
و أذكر إلي اليوم كيف أنها انتهرتني بل قذفت في وجهي شيئاً كان بيدها في ثورة و غضب و أنها صرخت فيّ مؤنبة
-         إنت قايل نفسك ود مُنُو؟، ود الصادق المهدي؟
بالطبع ما كنت أعرف من هو الصادق المهدي ولكن سؤالها أثار فيّ سؤالاً آخر
-         أنا ود مٌنُو؟
ولم أسالها لأن السؤال نفسه لم يكن مُلحاً بالنسبة لي، لأنني لم أعرف قيمة الأب و لا أهميته ولا وظيفته بالتالي لم إفتقده،والآباء الكثر الذين في حينا لم يقم واحد منهم بعمل خارق تعجز أمي عن القيام به، بل أن أمي هي التي كانت تفعل مالم يستطع الآباء فعله، فهي تبني وتصون بيتنا بيديها،وتصنع السدود الترابية لكي تمنع مياه الخريف من جرف قطيتنا حيث أن بيتنا يقع علي تخوم خور صغير،ولم أر أبا فعل ذلك، كانوا يستأجرون العمال حتي لصنع لحافاتهم و مراتبهم وغسل ملابسهم، إنه لأمر أدهشني كثيراً، ضف إلي ذلك أنّ أمي تعمل خارج المنزل في وظيفة مهمة، إنها تبيع الشاي و القهوة عند بوابة السجن ويستلف منها الجميع، حتى المأمور نفسه، لذا إلتبس عليّ الأمر، والآن و لأول مرة أعرف من أمي أن من وظائف أبٍ غامضٍ  يُسمى الصادق المهدي تقديم الدراجات الهوائية إلى من هم أطفاله،  ولكن الشيء الذي  أطاح بسؤال الأب نهائياً أن أمي آمنة بعد ثلاثة شهور أو أكثر، اشترت لي دراجة هوائية، ولو أنها ليست جديدة تماماً مثل دراجة أبكر اسحق، وأنها مستعملة من قبل، إلا أنني فرحت بها جداً وخصوصاً بعد أن أكد لي أصدقائي أنها دراجة جميلة و هي أجود من دراجة أبكر.
                         أمي تعمل في صُنع الزلابية وأقوم أنا ببيعها للجيران في الصباح الباكر و تعمل فرّاشة في السجن ما بعد بيع الزلابية وشرب الشاي، وعندما تركت العمل في السجن، عملت بائعة للشاي عند باب السجن كمحاولة منها لتحويل زملاء الأمس إلى زبائن اليوم، وبالفعل استطاعت أن تكون منافساً حقيقياً لأم بخوت وهي إحدى زبوناتها في الماضي عندما كانت أمي تعمل  فرّاشة، أما أنا فذلك الولد الذي يَطلق الناسُ عليه  (وَدْ أُمُوُ) أعني لا أبرح مجلسها أبداً بعد نهاية اليوم الدراسي أحضر إلى موقع عملها، أغسل لها أكواب الشاي الفارغة،أحمل الطلبات البعيدة إلى الزبائن،أشتري  لها السُكر و الشاي الجيدين من الدكان، أحكي لها عن التلاميذ،الحصص و المعلمين، وعندما أنعس تفسح لي مِرقَداً خلفها فارشة لي بِرشاً  من السَعَف، متوسداً حقيبة المدرسة، عجلتي الجميلة قرب رجليّ تنتظرني: أنام .
                       قلت لها في جرأة
-         أنت وين الآن؟ في الجنة؟  في النار؟  في الدنيا ؟ ووين  كنت الزمن دا كله؟
قالت لي-         أنا هنا.
كانت تجلس في الكرسي كما هو في اليوم الأول،سألتني عن مبررات كل ما قمت به في يومي هذا، وكنت أجيبها بصدق، تعلق أحيانا أو تصمت في أحايين كثيرة، ولكنها بشكل عام كانت تؤكد علي أنه ليس مهماً  أن ما أقوم به مقبولاً خيراً أم لا، لكن المهم هو، هل أنا أجد مبرراً لما أقوم به أم لا، هل أنا راضٍ عن نفسي أم لا.
سألتني
-         هل توافق علي إقتراح بِتّكْ أمونة؟
قلت
-         أنا ما أظنني بقدر علي النساء، كبرت وفقدت الرغبة في المواضيع دي، و أنا الآن قادر أقوم بواجب نفسي بنفسي من طعام وشراب ونظافة، المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنت و كفاية.
ابتسمت أمي آمنة ابتسامة عميقة و حلوة، ثم تلاشت تدريجيا في فضاء الغرفة، في الصباح الباكر اتصلت بي ابنتي أمونة مرة أخرى وقالت لي بوضوح إنها سوف ترتب لي لقاءً مع أربعينيةٍ جميلةٍ  مطلقةٍ لها طفلان،ومن ثم أنا حر في أن إرتبط بها أم لا، قلت لنفسي
-         ماذا ستخسر؟  فليكن.
كانت امرأة جميلة، لها ابتسامة دائمة في وجهها، لا تحتاج لسبب وجيه لكي تضحك، فهي تضحك باستمرار، و تستطيع أن تقنع أي إنسان مهما كان متشائماً أن يرد على  إبتسامتها بابتسامة أخرى، حتي ولو كانت باهتة تعبة، ولكن الشيء الغريب فيها و المُدهش و المخيف أيضاً أنها ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس، نفس الحذاء، نفس الصوت نفس الطريقة في الكلام نفس الوجه، نفس الإبتسامة، و استطيع أن أقول إنها نفس المرأة.