الجمعة، 16 أكتوبر 2009

عثمان شنقر- لواري من غبار


بعد توقف اللوري مباشرة , أما المقهى الصحراوي ظهرا المراة العجفاء ذات الرثاثة المحزونة من مكان مجهول على وجهها يرتسم تعابير مشفق من اصرار عابري القرى الصحراوية في طريقهم إلي ليبيا او إفريقيا الوسطى على ارتياد هذا الطريق المحفوف بفوهات بنادق النهابين .
ترى لواريهم مشحونة بمختلف الاصناف من جوالات الخيش وبضائع في صناديق محزومة بحديد البال كلها ترقد في بطن اللوري . في استقرار مطمئن مع حفنة من الركاب الغامرين بكل شي .
استطاعت المرأة بخبرة بصرها أن تقدر المسافة التي قطعها اللوري بواسطة الغبار العالق بسطحه المدهون وبواسطة النباتات المشتبكة في الصواميل وحديدة الماكينة التي ترفع الساعد غطاءها الآن وهو مهمك في انتزاع الاعشاب الجافة من بن طيات الحديد , باعصاب مرتجفة .
تمكنت المرأة من التعرف على نباتات تلك المناطق التي قطعها اللوري وعرفت فيها اماكن كثيرة في مختلف مراحل حياتها العديدة : أثناء الرعي بالبهائم أيام لشباب حين كانوا يتوغلون كثيراً بحثاً عن العشب والماء ومرات أخرى حين سافرت إلي المدينة عن طريق بص متهالك واخذت منهم الرصحلة أيام كثيرة في الطريق ومرة حين وجدت نفسها في حملة انتخابية مساندة لمرشح مغمور عن دائرتهم وفوجئت بان الجميع لا يعرفون ذلك المرشح كما تعرفت علي بعض النباتات التي تنبت حذاء النيل . تلك النباتات التي بعثت فيها ذكرى حمى جسد غابرة تمكن فيها احدهم من انتزاع الكهرمانة النفسية .
اللوري يقف أمام المقهى مغبر السطح يصدر صوتاً خفيفاً مثل الانين والركاب نزلوا متعجلين في عيونهم ذلك الالتماع الحيواني للخوف من القادم .
جلب لهم صاحب المطعم وصبيانه العناقريب العارية للجلوس والاستجمام مرحبا بهم في عبارات متصلة تالياً عليهم قائمة طويلة من المأكولات والمشروبات الساخنة والباردة . صبيان المقهى اعدوا الاباريق والمصلى واكواب الماء للمسافرين سائق اللوري اخبر صاحب المقهى أن عجلتهم في السفر وانهم لم يمكثوا طويلاً . سأله صاحب المقهى عن وجهتهم فاخبره السائق واردف بتوتر ظهر سؤالا عن الطريق ومدى خطورته .
المرأة كانت واقفة بعيدا تراقب السحنات المختلفة لركاب اللوري . بعد قليل انضمت إليها إمراتيين في نفس عمرها . وقفن يراقبن ويهمسن على شي ما . صاحب اللوري الذي خبر هذا الطريق لفت نظره منظر النسوة المتهامسات فحمل ابريقه كأنه ذاهب إلي الخلاء ولما فهم ما يدور بينهن اشار إلي احداهن إشارة ذات معنى فتبعته من بعيد .
لما تاكد المساعد من غياب السائق دخل الحلة التي يعرفها من قبل . حسب النقود التي في جيبه . امراة كان قد تعرف عليها من قبل . اعتاد كلما جاء يذهب إليها . تبيعة الشاب والمتعة .
عندما فرغ الركاب من اداء صلاتهم جماعة شالوا الدعاء طويلا بان يكون الطريق آمن وان يعودوا إلي ذويهم سالمين غانمين آمين .
تلك المرأة ذات الرثاثة المحزنة , عادت مرة أخرى إلي المقهى بمظهر اقل رثاثة وحزن . بل بدأ عليها بدل الاشفاق – اللطف والبشاشة . تود وجهها بما يشبه الخجل والحياء . جاءت بعد أن جاء السائق وجلس على عنقريب منفرد . اشار إليها بالاقتراب فاقتربت وجلست جواره لاحتساء شاي المساء . كانت البشاشة تقطر من ملامحها الدقيقة . نفضت بعض التراب العالق بثوبها . حملت الذكري إلي عشرين سنة إلي الوراء يوم أن نفضت تراب البحر من فستانها , اثر العراك غير المتكافئ مع الرجل , حيث تمكن الرجل من نزع الكهرمانة النفسية عنوة . ثم نزلت إلي البحر للاستحمام بدون عويل او بكاء . رأت الرجل وهي تدامس الماء يلملم اطراف ثيابه ويختفي امام ناظريها في الافق كأنما جاء من المجهول . إلي اليوم لم تعرف له ملامح ولا تجد له شبه . زان كان سائق اللوري اقرب شبهاً به .
رأي السائق المساعد يخطر امامه سعيداً , حاملا الزيت المستعمل ليدفقه في الخلاء فابتسم وغبطة على ما قام به عرف أن المساعد دخل الحلة وخرج منها سعيد بقدر وافر والمرأة التي صحبته إلي الخلاء تجلس جواره على العنقريب ولم تزال اثار الرمال التي افترشاها على ثيابها ودع السائق المرأة وعصر إليها مبلغ من المال في يدها . تمانعت قليلاً ثم قبلت النقود على مضض لمل الح عليها .
الركاب المتعجلون علي السفر كانوا قد انتهوا من صلاتهم وادعيتهم منذ زمن طويل . تناولوا اكواب الشاي الساخنة على ضؤ الرتينة ولما قاموا يستعجلون السائق كان اللوري قد سبقهم في لحظات قاموا برفع حقائبهم على ظهر اللوري وركبوا جميعاً وودعوا من بقى بالمقهى .
تحرك اللوري أولا في بطء ثقيل ولما استقام الطريق ذادت سرعته . الجميع كانوا في خوف رهيب من القادم . الطريق الذي كانت تعرفه المراة العجفاء ذات الرثاثة المحزونة كان مشرعاً على بنادق النهابين سريعة الطلقات وقفت المرأة تنظر بحزن شفيف إلي الغبار الذي خلفه اللوري . و تسألت : كم مرة وقفت هذه الوقفة تودع الاعزاء الذين يركبون لواري الغبار!؟ .

الأحد، 4 أكتوبر 2009

رانيا مأمون - عبور


تتكرر زياراته لي ويطرح عليّ نفس الأسئلة بنفس نبرة الحزن:
ـ ألم تصبحي طبيبة كما وعدتني؟
أجيب أنا بذات الشعور الطاغي بالندم:
ـ للأسف، لا!
يقول لي:
ـ كنت أضع فيك أحلامي وظننتك ستحققيها.
أصمتُ لعدم قدرتي على الرد، أو ربما إحساس الخيبة الذي يتقطّر من كلماته يصيبني بالخرس.
***
رائحتك مدبوغة في شقوق الحائط ممتزجة بذرات التراب. تتسلل إليّ وتغمر هواء الغرفة. اتلفّت لأعرف مصدرها. تغمرني، تحيط بي، أمدّ يدي كي اقبض بها في كفي، كي أمسّها علِّي أمسّك من خلالها، علِّي أمسُّ كفك البضة، وجهك، يدك. أحسّك قريباً. قريباً جداً. أحسّك قربي، فيّ، داخلي. أشعرُ بأني إن مددت يدي ستصطدم بك.
رائحتك تفتح مشارع الذكرى فتغزوني بغتةً مثل جيوش النمل تلسعني بقوة وفوضى: على عيني، جلدي، مسامي، دمي، أذنيّ وهما تلتقطان ذبذبات صوتك الحاني. تغمرني الذكرى فاستشعر دفء حضنك ودفء السرير عندما أنام قربك في طفولتي بدلاً عن أمي. عندما تأتي من مأموريتك التصق بك مثل الغراء. تحاول أمي أن تبعدني فلا استجيب. تقول لي: غداً سيسافر. أقول لها: ولكنه سيعود.
الآن وبعد أن كبرت وبعد أن ذهبت أنت، بعد أن اسلمتني لهذا الفقد الذي يصعب التعايش معه، لن استطيع أن أجيب نفس الإجابة أو أكون بذات اليقين.
رائحتك تملأ كل مساحات الفراغ. تخرجني من دوامة ذكرى لتقذفني في أخرى أوسع وأعمق وتضخِم فيّ إحساس وجودك قربي. تحتسي الشاي، بكوبك الكبير الذي مازلنا نحتفظ به، وكم كنت تحب الشاي. بعده تستمع إلى الراديو مستلقياً على قفاك واضعاً رجلاُ فوق أخرى، ثم تعبث في حقيبة ذكرياتك وتنادي عليّ كي أقرأ هذه الورقة أو تلك. وأحياناً يخاتلني طيفك وأنت تتوضأ تهيؤاً للصلاة، واستدعِ الآن فرحتك عندما انتقلنا لهذا المنزل قرب المسجد حيث قوة الآذان تضرب داخل القلب وتهزّ البدن، قلت: أكثر ما يفرحني هو جواري للمسجد، أهناك أفضل منه جار؟
***
اليوم عيد. الكل يرفرف فرحاً. مؤذن الجامع يُكبِّر ويهلِّّل والأطفال من بعده يكررون:
الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. الله أكبر ولله الحمد
أبناء اخوتي يدخلون ويخرجون فرحين بملابسهم الجديدة وحلوى العيد لا تفارق أفواههم. يأتون إليّ ويضجّون:
إياد:
ـ وين العيدية؟ ما قلتي ح تدينا ليها بعدين!.
براءة:
ـ أدينا سرعة عشان ماشين الطوطحانيات (المراجيح)
زياد:
ـ إنتي ح تدينا كم؟ العيدية بتكون كتيرة، أدينا قروش كتيرة عليك الله.
حينها كنتُ أضع اللمسات الأخيرة في ترتيب البيت. أعدِّل من وضع الستائر، أشدّ الملاءات الجديدة، وازيد الجمرات في المبخر حيث أعواد الصندل تكمِل بهجة العيد وتهبها رائحتها.
اسمع أختي تنادي على أمي:
ـ يُمَّة.. يُمَّة.. تعالي شوفي أبويّ دا مالو.. شكلو تعبان شديد.
تذهب أمي. تتلمسّه. تسأله لا يجيب. تطلب منها أن تنادي على أخي كي يُحضِر جارنا الطبيب.
في ذلك اليوم غسلته أختي في الصباح وألبسته جلبابه الجديد، عطّرته وأخبرته بأن اليوم هو العيد. لا يبدو أنه أدرك ما تقول، أو عرف ما هو العيد. كان غائباً عن الإدراك. تسأله لا يجيب أو حتى يعطي الإحساس بأنه سمعك. ينظر إليك فتخال أنه لا يراك بل يرى عَبرك، نظراته زائغة، تائهة في فضاء المكان.
سقته الشاي الذي يحبه وأعادته إلى رقدته في السرير وغطته جيداً. سألتها:
ـ قدر يشرب الشاي؟ رجّع؟
ـ ايوة شرب. لكن ما متأكدة ح تحتفظ معدتو بيهو ولا ح تطلعو.
***
كنتُ طفلته الأثيرة، كان يحبني جداً. عندما يراني جالسة بهدوء وحدي لا أتسامر مع بقية الأسرة يأتيني ويسألني:
ـ مالك، في شنو؟ قاعدة براكي ليه؟
ـ مافي حاجة.. قاعدة ساي
ـ أمشي أقعدي مع اخوانك وإتونسي معاهم، ما بحب اشوفك قاعدة براكي كدا.
كان يخصني بكل شيء يحضره، حلوى، نقود، قصب سُكّر، فول، تسالي، يخصني بالحنان، القرب منه، كل شيء وعندما يحتج أخوتي يتحجج بأني آخر العنقود.
بعد عودتي من المدرسة كنت أسأل أمي عن الغداء فيرد عليّ هو:
ـ امشي المطبخ براكي، انت بتخجلي دا بيتك امشي أكلي.
يعلن دوماً عن آماله الكبرى فيَّ: ابنتي هذه أريدها طبيبة. يناديني دائماً بالـ دكتورة وكنتُ أطرب لهذا النداء. وبعد كل هذا الحنان عجزتُ عن تحقيق رغبته.
***
في انتظار الطبيب كنت أجلس قرب رأسه وهو ممدد على السرير. ألاحظ حبيبات من العرق على جبينه ورأسه الأصلع. أمسحها بيدي مجردة من أيّ منديل. يندّي جبينه مرة أخرى أمسحه مرة أخرى. يستمر في الندى وأواصل أنا في المسح بيدي العارية.
عندما حضر الطبيب وجدنا نحيط به، أمي تدلك اقدامه المتشنجة، أختي على الطرف الآخر من السرير تمسك بيده، أخي واقفاً ليس ببعيد وأنا على رأسه ماسحة جبينه باستمرار. يعاينه بدّقة. أمي تنتبه لنظرات أبي. ربما أدركت ما كان يحدث، بدأت تردد الشهادتين. الطبيب لم يطلب منها الصمت، بل واصل في قياس الضغط وفتح عينيه وقراءة نبضه. أرى شفاه أبي تتحرك وتردد بعد أمي الشهادتين بصوتٍ خفيض يكاد لا يُسمع. ثم يغيب الصوت وتبطؤ حركة الشفاه.
في لحظة فاصلة ندّى الجبين بغزارة. توقفت الشفاه عن الحركة ورفع الطبيب رأسه وعلى وجهه تعبير آسف. لجهلي لم أكن أدرك حتى تلك اللحظة بأني أمسح أثر تعرُّق خروج الرَّوح، ولم أدرِ أنها خرجت. ربما عبرت قربي، ربما اصطدمت بي اثناء عبورها، ربما ودَّعت، لوَّحت أو ابتسمت، لكني رغم قربي ما رأيتها قط.