الجمعة، 9 يناير 2015

سارة الجاك

الشمس مشّاطة كونية

تقافزتُ أمام عينيها، لم تنهني، عبرتُها إلى قلبها، قصدت النطفة السوداء داخلها؛ النفس، وسوست لها، قبلتني، أنا أتحكم في كل ما تفعل، فججتُ شريانها التاجي ليدخل حبيبي الكِبَر، هنا مقام طيب لنا، أنا الغرور، سكنا فيها.
كنت عند شط الروح لما رأيتُني على وجهه، أعجبتُ بملامحي، لكن سمرتي تخفي ألقها، نحن من وشينا لها بأن سمرتها تخفي جمالها.
لتكوني جميلة احصلي على بشرة أكثر بياضاً
(علامة تجارية)
شكوت للروح همّ سمرتي..
المرة الأولى لم تجبني، في الثانية لم تجبني، وفي الثالثة قلت لها اذهبي آتيني بسبع ودعات بيض ومثلهن ملونات، وحبات من الذرة الجديدة ومثلهن من المحلب والكمون. أردت أن أصرفها عن طلبها للبياض الزيف لكنها أتت بما طلبت
قلت اذهبي بما أتيت وتعالي عند الأصيل، ظننتها ستكسل لكنّها أتت.
أمرتها أنْ تعرِّي. تعرت.
ارتمي في أحضاني. ارتمت.
أي فتاة أنت؟
لم ترد.
فتكت بها، فضضت عذريتها، لأنها عار على السمراوات، نسلتها نسالات بيضاء ونسالات سوداء، حِكت البيضاء بأمواجي، ضممتها، لفظتها، خرجت بيضاء بكل السوء، حِكتُ السمراء ماسة سمرية وضاءة، حفظتها داخل صدفة قوية جميلة، أحكمت الحراسة عليها.
إنا سعيدان، أفقدناها سمرتها وعذريتها لأنها لا تستحقهما، أصبحت بفضلنا بيضاء قبيحة مغرورة ومتكبرة.
كنت أتسكع في طرقات المجرة، لما أرسلت التبانة في طلبي، أنا شعاعات هاربة من الشمس الأم، كان الوقت ضحى، استمشطتني، جلست لأمشطها، تجاذبنا أطراف الحديث، هي تأخذه مني وأنا أفتله لها ضفائر في شعرها، وبينما مخرزي ماضٍ بين سبائبها السميكة السوداء، بانت شامة بعد المساير مباشرة إلى الجهة اليمنى من الرأس.
اللهاث يعلو وينخفض، تدفع بي الريح شرقاً بعيداً عنها، تضللها الرمال عن مكان حوافري، يوهمها السراب الذي يسارها بأنه البحر بينما أتوغل أنا جنوباً إلى قلب الصحراء، ما تزال الفرس تطاردني، تريد أن تثنيني عن عزمي، الذي لا يضرها، لا أظن أن تتخلى عن لسانها وتحريكي للساني اليابس ما يغضبها، لن أقف لأناقشها لكني سأعدو حتى تتعب وتيأس حتماً ستتركني، أنا المهاة التي تنظر كل الجهات.
الروح أمامي، لن أستطيع عبورها وإن لحقت بي تخاصمنا، أيتها الريح شقي لسانها عن لساني وساعديني لأسبح بين أمواج الروح، أريد أن أغتسل.
غسلت المهاة، شرّبت لسانها اليابس مياهي العذبة السلسبيل، ابتل وتكلم، نطق بحرف بربري مبين وترك للفرس حرفها العربي الثمين، سكنت السمرة التي في الصدفة تحت هذا اللسان، وأبحرا شمالاً، عند بحر الحدود، توقفا، نظرا يميناً ثم استيسرا، وصلا حيث الشامة في رأس التبانة، أخرجت المهاة السمرة من تحت لسانها، فاستوت فتاة عشرينية باذخة تحت أشعة الشمس الغاربة المتكسرة على صفحة بحر الحدود، صعدت ظهر المهاة، التفَّتا على بعضهما، صارتا تمثالاً نوبياً بجاوياً أو ربما أمازيغياً، صار ضريحاً ومزاراً في ميدان موسى الشعار في بنغازي. نظرناه من محلنا ذاك قبل أن أكمل فتل التحتاني من سبائب التبانة السميكة السوداء.

مازن مصطفى

قصة خـلق

mazen2

تناديك السيرينات بكامل غناء القديم؛ لن تتوقف. تبحث؛ زرعوك وين شتلوك وين يا العنب. يناديك العجوز الذي حمل نعرة البلوغ على كتفيه:
- يا ولد.
تجيهو مهرول. تطلب العين. يعطيك نظرة تملأ بها بصرك.
*
تتفحص العجوز بالنظرة التي أخذتها منه. ليس شيخاً، الشيخ من شاخ جسده، والعجوز صار عاجزاً؛ كعبه يؤلمه. سرت العطلة في خياله، قرر حقه فيها، نادته إلى خارج الرفاهية وأغرته ببلادة الموت ونعومته. قرر أن يجرب الشظف، ويعلل النوم. قرر أن يخرج منه إلى آخر، ففتح الباب وخرج. رهيف. يمنحه كاملاً للمنح، لا لشيء إلا لكونه مرغوباً. رغبته فقال حاضر. أبدى في البدء بعض الممانعة إلا أن الجِدة أغرته بالتجريب، ثم حلت عليه فرحة بالجديد. ثم هوذا عجوزاً لأنه لم يبصر ذيل سمكة.
*
تمضي مع العجوز إلى ما حدث. غادر في تلك النقطة من البحر التي حسبها سفينة؛ أبحر مقرراً منح مهامه كلها إلى الإبحار، وهذا شرف كله. ثم غروره، الذي أراد من إخراجه أن يعمل مصدّاً للمخاوف والكوابيس، المرتبطة بكون خلل ما في مكان ما يهدد شيئاً ما.
*
ثم شلته نظرة للخارج، ثم عطنه التزاحم، عاقبته التجربة. باختصار: بلوغ السلامة تشكك فيه السلامة. ثم لم يلبث العجوز أن أصاب نفسه بالسلام. ضربها بالراحة وقتلها في الاحتفاء الدائم بالدلال القديم. غامر بالدلال نفسه مقابل النوم. ولم ينم. العجوز لا ينام. لكنه لم يعلم قط أنه عجوز؛ كان حين ينظر في المرآة يبصر مدللاً في الكمال.
*
منذها قبع العجوز مقرفصاً في الغرفة، وعاش عينيه على البصر. شيئاً فشيئاً أتت جيوشه تحمل له الغنائم من الأصقاع البعيدة للعافية. ثم أبصر مهاوي جديدة سماها: مهاوي الدلال.
*
ثم صار شاباً إذا نادته السيرينات لم يتوقف. إذا أغراه العجوز بالعُطلة قرأ على نفسه هذه الكتابة، تعطيه نظرة يملأ بها بصره.

منصور الصُّويِّم

بسكاكين سيبرنطيقية صدئة.. في مديح الحريق وتشكُّلات البلازما

منصور

بحر الخليفة (1)
أوردة من ورد؛ شرايين غسقية، أفق دخان.. تُخوم هذا الذي يأبى الانولاد؛ متشبثاً بمخاط الحريق، أسنانه تعض شراشف مهابل وحلمات أثداء تتدلى من سماء تغيب، بهذا الذي يهزُّ جدران حناجر طيور، في فزع الريش تشرق دامعة، بصراقيل نارية؛ وهجها يصدُّ حدقات أيائل تفرُّ، بين نتوءات تلال تتلوى وهي تعانق عشباً ينسل الآن مغادراً صبغة الأخضر المحزون.. بهذا الذي يجرُّ من بحر الخليفة أساطير نساء؛ غريقات، شعورهن معقودة عند عانات متوهمة؛ تنبت بأرض خراب، تنساب ناعمة إلى حد شفرة الخرافة وأنياب غيلان الأساطير.. على سطوح ماء الاختلاق؛ مومياوات أبدية تُقلِّبُ أعينها وتحدِّق في غبار الكهوف الملوكية.. بهذا الذي يبلله رذاذٌ، نثار جليد، عبق أقحوان، عطر بارود طائش، دم طازج، عرق نازّ، دموع بكر، أمطار شتاء نحيل.. بفرسه الخشبي، والرمح المكسور، بحبات مسبحته تنادي الموت: يا جميل، نقِّ ببهائك الضدين، وسِّدهما القلب حتى يتحجَّر هذا الدم ويصير السواد.
قمة الخمسة (2)
الإبل يا قمة الخمسة، حليبها الترياق وكبدها الحجر، في مخازن السنام: هذه اللوبيا، دخن القوز، العقيق، عفوص طازج، عيش الريف، رز الخلاء وتبش الدرت الأخير.
ثمة هذه الخيول السطو يا قمة، بحوافرها اللا نهاية، تطأ اللين من عظام ورؤوس وأضلاع هشة؛ تدهس فخار البُرام، سعف برتالات ملونة وعروسات من قش وقماش وطين، كما ترج حتى الاندلاق لبناً، سمناً بلدياً، وبركيباً رائباً وتصهل فخورة: يا نبي تعال، الموت أكوام، الحنين هجرة طيور الأنفلونزا، الرحمة انقراض أبلانجات التبلديات الخمس.. العنق معد؛ يا نبي تعاااااااال.

خيول الماء (3)
هكذا الحريق، الأمخاخ التي تنضج بروية، طقطقة العظام، فرقعة الرئتين، انسلاخ الصوت، وفوح الانسلال.. هكذا، الحريق؛ الشبكيات التي تتسع على فزع؛ تعكس ألوان قزح تتشظى ملتهبة، وهنا وهناك تهرول خيول الماء الملونة، تتثنى صاهلة في أنين، ثمة النار، حزاماً يتصالب، قلب وحجر، زخات تتدافع، انتشاء، لولبة دخان يتصاعد مخترقاً سابع السماوات، متاخماً الرحمة.. يا الله؛ زخات الهتون أم زخات الحريق، فرس النبي، أم أفراس النار.

دمٌ يا إله (4)
عند تفاصيله الملونة يندفع متحرراً، كأنه حرباء، أحمر صارخاً وهو يعانق الهواء، أسود ساكناً وهو يتسرب بين ذرات التراب، مصطبغاً بالأخضر الزرعي، والأصفر الصحراوي، مشاكساً الألوان؛ ذلك وهو يحاور القماش، متشرباً القطن، مناكفاً النايلون، ومعانداً ضمادات الشاش.. دمٌ أو بلازما أو تلك الأوعية الدقيقة وهي تلد الانسراب الآن، تهب الموت خفيفاً كنعاس أو انولاد.. دهشاً يغادر أوردته وشرايينه وقلبه الخفاق، بلونه المتفكك يرسم ابتسامته الأخيرة ويغادر.. دمٌ يا نبي، دمٌ يا إله.

الماء يا سيدي (5)
لكن الماء، يا سيدي، بين الكرجاكة وتشققات البلاستيك، في رحلته من قمة الجبل لطين برلي، ومن سماء الإله لحراز العشوش.. الماء وهو يتدلل، قطرة قطرة، يحصي الصفوف، يتسرب بين شقوق أبو شوك وجحور أفاعي مرلا، تحركه عصا الساحر، ليشرق مع أسراب ساري الليل، ويغرب مع قطيع أم تكديم المتلاشي كسراب.. الماء يا سيدي، وهو يحفز حلقَ مجروحٍ بالصراخ، وهو يبلل جرحَ مقروحٍ بغنغرينته الأخيرة، وهو يندلق بحنان ليعد الجسد المسجى، لرحلته تحت الرمال، وجبة لماء الديدان.. الماء يا سيدي، في انهطاله على سعف كلمى وصفيح دوماية والسريف، ببرقه الساطع ودوي فرقعاته التدعو لابتسام، الماء في مؤانسته الحميمة لأجساد الصغار حتى الركبتين، البطن ثم الصدر، في ارتعاشته وهو يسيل بين نهدين ويبلل فم رضيع مدهوش.. الماء يا سيدي، وهو يترحل مختزناً في سنام، وهو يرعى قطيع أبقار من حفير لحفير، ومن نهر لنهر.. الماء يا سيدي.

أحمد مبارك

تجلِّي ضوء.. تبخُّر جسد


احمد مبارك


“إلى التي أمي؛ جدتي القديسة: رَكـِــــــــيَا”
خوف مبهم يعتريك، تحدق بوجود يسير تلقاء حتفه، نداء غامض ينبعث من هنالك.. ثمة بوابة هائلة. مهرولاً، تقف عندها، يداك معلقتان على عارضتها، ذهول يغمرك ودوار، إذ تنظر عدماً لا نهائياً يتلوَّى.
قطيع بشري يسوسه ضوء: جنود بجلود رثة، ملوك حفاة، و…
يعبرون العدم، ثم حذاء جبل أسود. يقفون.. خلعوا أقمصة من قشور زائفة، تنحت لا وعيك على مشهد كهذا رأيت..
تجلس على شاطئ النهر، تراه هو الآخر قد آل إلى خيط دقيق، تسحب شبكة مكتظة بأسماك مذهولة. دهشتها بمأزقها الوجودي تدعوك لأن تعيدها إلى الماء، تتأمل ذلك ملياً: لعل الأمر ذاته يتجدد، أعني ثمة خيط متين لا مرئي، يسحب الأشياء بذات الطريقة إلى البر، بعد أن أتخمت بالطعم. وفي ما يشبه الهزيمة تنفلت حبال الماء من قبضتها.
نذر ريح كونية تلوح في الأفق، يخال لك أنها تغزو العالم: براحات آنية مضرجة بدماء، عمائر سحت متداعية، قطاطي سحيقة، رواكيب مهتوكة، قاذورات، حانات سرية عامرة برجال دين ووعاظ نهاريين، كل من هبَّ ودبَّ؛ تلك الريح سوف تكنسه إلى عراء بشع.
***
تتطلع إلى الأفق، حمرة شفقية تشي بدنو موعد “الزينة المهبوشة”. تتجه نحو الباب، يأتيك وقع طرقاتها المضطربة، تفتحه متلصصاً – كما يروق لها أن تفعل – ثم مشيعاً الإناء الأثري بنصف ابتسامة.
يسقط إناء الحليب عن يدك؛ لازمة لم تنبس بها الزينة: “كيف أمسيتو؟…”، تربكك سرعة تلاشيها طالما عرفت بالبطء. تكاد أن تفقد صوابك، تصرخ.. تتوزع في شوارع لم تطأها قدم. لغط كثيف يثيره اختفاء الزينة..
(ما سيحير ليس اختفاء الزينة وحده، بل من يأتي جدتي بالحليب، إن كانت الزينة نفسها خيال مآتة محض…؟!).
تجلس أمام جدتك ترقبها تكترع الحليب، تفكر بالهوة تبتلعك حينما يكف هذا الفم الجميل عن اكتراع الحليب: من سواها يمضغ العدم ويدغدغه؟!
شعورك بخواء ووحشة يدعوك للصراخ بهيستريا، تدفن وجهك بين ذراعيها، تبكيك، تخاف تهجسك نحوها.
***
بشدة، تستنشق عبق غرفتها المميز: رائحة الشيخوخة الغامضة تتخللها (الصندلية) و(بت السودان)، يكسو وجهها الصامت بريق مدهش وهالة قدسية، مشمولة بثوب أبيض ناصع، شعرها القطني بالكاد، لمَّت زوجتك فطومة شمله في ضفيرتين. عيناها مغمضتان، فمها يلوك العدم، حبيبات مسبحتها تنزلق بإيقاع ساحر متماهٍ في الصمت (كأنها عوالم عرفانية).
تدخل غرفتك الدائرية، أثاث فخيم يشعرك باقتحام المستقبل: خزانة ملابس من خشب مصقول، (يونِت) مذهب عليه تلفاز ضخم، يجعل كل ما سواه يبدو صغيراً جداً (كما يزعم الإعلان…) إضاءة بمفتاح تحكم: سطوع حاد، خفوت حالم.
تبعثر قصاصات أوراق بحثاً عن اللا شيء. ورقة صفراء عليها توقيعك، تفتحها، تقرأ: “الزمن إحساس مراوغ، فمن خلال دبيبه الخافت ننصت إلى خلايا المادة تنمو؛ ما يشي بتغيرات شرسة تحدث بتجاويفها، تشكلات مفزعة تركل – أثناء تناميها – اللحظة الراهنة بغية الوصول إلى نقطة ما، تبدو مستحيلة، تختبئ بين أغشية الآتي”.
تتساءل.. تفكر.. تبحث عن اللحمة الرهيفة، التي تربط هذا بتمسِّك جدتك باللحظة المركولة..
تزلق نظرك على الرزنامة: أسبوع واحد تبقَّى من أيام عطلتك؛ تعلق: “على الأقل سأستريح من مكابدة اللهث للحصول على مركبة بموقف (جاكسون) العبثي، توسلات طوفان الشحاذين، غلاء المعيشة (عفوا استحالتها): موات طال الحيوات كلها، وجوه متنافرة غارقة في بؤسها، تبحث – متصادمة – عن ذواتها في زحام مذعور. الكل مقتلع من سياقه العاطفي: فصام عارم.
(هذي بلاد، على المرء فقط: أن يعبر مجالها الجوي-إن كان ثمة مجال)!.
***
اعتراضات جدتك تعدَّت إضفاء طابع حداثوي على غرفتها، إلى تلة التراب ذات الثقوب الكثيرة.
عند جلستكما (أنت وفطومة) على التلة، يكون القمر في كامل تجليه وعظمته، تهبُّ نسيمات لطيفة تثير فيك كوامن عدة: تذكر ما كانت تفعله بك نكهة الأنثى المتدخنة..
بيوت كثيرة خلت من ساكنيها، بعضهم لقي شبراً توسده، بعض آخر قبع على رصيف، يحصي خيباته.
فطومة – كهواجسك- تسائلك عن الفناء.
عن مستودعات الخيط الفضي بعد انملاصه من الجسد، هل يتصاعد إلى السماء.
عن مآلات الجسد ذاته، الكتلة الليفية شديدة التعقيد.
تنكمش مرتعدة، تسند رأسها الصغير على كتفك، تشرع أنت في العبث بضفائرها، تقول: “أنا خائفة”.
تحدثها عن هاجس يشغلك – بجانب حادثة الزينة – يكاد أن يستحوذ عليك أثناء تسفارك: أن تعود فلا تجد أحداً، تتصور – عند خفقات قلبك بعنف – مكروهاً سيحل بها، فيصادف أن تكون جالساً على أريكة أحد المقاهي، الأمر يحدث بمباغتة مربكة، كما في المرة السالفة: منغمساً في لحظة ضبابية، طفقت تتشمم الكوب تبحث عن نكهة بعينها، فإذا بالإحساس يداهمك، قناعة ناسفة بشأن جدتك، جعلتك تطوي مسافة بينكما وإلا كنت تجد رئتيْها توقفتا، غير أنك صعقت بضحكتها تخترقك من البعيد.
***
من باب أحد البيوت المهجورة مرق شيء، لا تدري أكان طيفاً، ضوءاً، أم رجلاً انسل ببطء شديد، متسرباً من حائط أصم. تتبعته بشياطين خوفك الثائرة.. عبرت خلفه “حلة القش”، لكن الكائن الذي لم تستبن ماهيته، استدار إليك بثقة وآلية، ثم انمحى.
مرتعشاً، تتصبب عرقاً، حدقك بنظرة غامضة (كانت عيناه تشعان، له لحية بيضاء كثيفة).
وكأنك في دوامة رعب مغلقة؛ إذ أن الكائن – قبل انمحاءته – أثار عاصفة جنونية بجناحيه.
تلتصق ابتسامته بذهنك، تلاحقك، ترتعد، ترتسم، تسقط بشكلها على الأشياء بمطلقها.
تستيقظ مهلوعاً، تصرخ مصطدماً بحوائط، يختنق صوتك، زوجتك وجدتك تدركانك عند مشارف جنون وشيك، تهذي وتخطرف، ينعصف ذهنك، تعصر ذاكرتك حتى تكاد الصور تنبثق، تضع صورتيهما متجاورتين، لا تستطيع أن تحدد: أيهما الكائن؟ من رجل ميثولوجيا الجدة؟.
تتكأ على مسند وثير، تستجمع قوى التذكر، تصيح، تغمض عينك متداعياً. (كانت جدتك تغمض عينيها، تفعل مثلها. أثناء سردها ترى الرجل ذاته ينبثق شيئاً فشيئاً – كأنه جبل الجليد – من ثنايا السرد، تفتح عينيك عند تمام (الحجوة) يتمدد بشكل فنتازي أسفل شجرة الليمون. لم يكن تمثله هلوسة أو سعة مخيلة.
جدتك (وهي عليمة) وصفتك بالمسطول مدثرة إياك بتعاويذ نوم.
***
تلملم حاجيات ومخاوف تلقمها الحقيبة، لا تستطيع تخيلك بلا هواجس؛ بدءاً بفقدان وظيفة، ذلل حصولها لك قريب متنفذ، واصل (كما يقولون). ومن جهة تخشى حدوث المحتوم في غيابك.
تمر بدار أنيقة للمُسِنَّات، يخيل لك أن فطومة جالسة على التلة، تسمع ما يشبه نداءات الجدة، دوائر وأصداء مشروخة تخترق أذنيك، زوجتك انقضَّ عليها الكائن، نملة تتسلق ساق جدتك، و…
…تسقط حقيبتك مقتحماً سرادقاً عظيماً ألوانه صاخبة، وجوه تراها لمرة أولى وأخيرة، ملابسهم بيضاء.
مطر خفيف بلل مساحة أمام بيتكم، دون سواها، أطيار ملونة ترفرف بتغاريد كأنها معزوفة مقدسة، بساط حشائش خريفية، نمت في غير ميقاتها، سحب شتوية ترسم (اسم الجلالة) برسم عثماني في زرقة سماء صافية، عبق ينسرب وهدوء جليل.
بقوى حائرة وذهول، تقدم لك فطومة كوباً من عصير ذي مذاق ونكهة خاصين:
كانت تجلس على التلة تفكر بك، بآخر ما تحدثتما عنه: الخروج بسلاسة من بوابة العالم الخلفية، مآلات كتلة الخلايا وهرمونات الآيروتيكا، بالذات.
معلقة بصرها في عدم، تقول:
“عبر الكائن وبيده مسبحة فضية لوقع حباتها رنين آسر، توجست خيفة، ارتعشت فرائصي.. تبسمت.. حتى بللت سروالي بالخوف.
حيَّاني بوقار وورع، سائراً نحو باب الجدة، يمشي بسرعة فائقة، لمحت ما يشبه إناءً بيده، لكنه اشتعل ضوءاً باهراً ثم اختفى، إثرها بعشر دقائق سمعت صوتاً رطباً وواسعاً؛ هرولت مذعورة، دفعت الباب مستعلمة..
الجدة مستلقية على فراش أبيض، أنفاسها تنساب بأريحية رهيبة، جلست بجانبها أرتعش.
قالت مشيرة نحو شجرة الليمون: “إنه هو.. ألقى عليَّ السلام، دخل يتأبط فراءً أبيض، افترشه، تقف أعواد صغيرة من الصندل، غرسها على الأرض، في شكل مستطيل، تزامن أن أحسست نسيماً رطباً يملأ رئتيَّ، حالما غرس العود الأخير، شاملاً الجسد كله”.
هالة حبور وشيء من حزن، في تلك الليلة، كسيا وجهها النوراني. قالت إنها تكاد تلمسك. تركت لك المسبحة والمصحف وسهم جدك الذي – بالتأكيد – سوف تحتاجه “الدنيا ما مضمونة…”
شبكت أصابعي المتوترة، وضعتها في حجري أرقب – بين حين وآخر – ابتسامتها، تشع، تتسع حيناً، تنحسر؛ ثم إذا بي أستيقظ مذعوراً، أكاد أجن، لم تكن على فراشها، ولا في أي مكان آخر توقعته.

موسى حامد

الهادي لوكس.. الراكب البوكس

موسى حامد

ليس شرطاً أنْ يكون حفل عُرس أو طهور، المهم أنْ تكون هناك حنّة ودلوكة، وبنات سمحاتْ، وأخريات يعرفن كيف يُغنين على الدلوكة. والمهم أيضاً، أنْ تتوافر لأهل المناسبة (حلّة) لا بأس بها لإعداد شاي اللبن المزبّط، وبعض الرغيفات اليابساتْ للهادي لوكس، مطرب الحي المجّاني، وصاحب الصوت الطروب، والأغنيات التي يؤلف غالباً كلماتها ويلحنها لحناً بسيطاً. أو يتدخل في تغيير وتبديل بعض مفردات الأغنيات الشائعة، ويوقع عليها بطريقته، مقحماً اسمه في الأغنية، أو اسم والدته، أو حبيبته “مشاعر سمرة”.
“الهادي لوكس”، إحدى شخصيات المجتمع المهمة في الملماتْ. وهو من الشخصيات المثيرة للبهجة والإمتاع، أواسط الثمانينيات. شخصية تجمع في تفاصيلها الكثير من الغرائب، والأسرار، وكذلك التناقضات. غير أنّ العنوان الأبرز لها هو محبة الناس، والإصرار على خلق النكتة، وإشاعة البهجة عبر الغناء، حيث كان ذا صوتٍ جميل، طروب، وببحةٍ مميزة. أو إشاعة النكتة عبر الحكي، وإطلاق النكتة الحاضرة، ومشاغبة الناس، وصنع المقالب عليهم. وحين يُناديه أحدنا بـ(الهادي لوكس)، كان يرد عليه مباشرةً (الراكب البُوكس).
أول وصوله للحفل، كان الهادي لوكس يُصدر شغباً عُرف به، يُعلن عبره وصوله، مصدّراً إزعاجاً وضجة من نوع خاص. كان يُشاغل الجميع، بدءاً بالأطفال والفتيات، وليس انتهاءً بالنساء اللائي يُشرفن على إعداد الأكل:
- هوي يا غبيانات، البامية المفروكة دي بتعمل فلايتْ، ما تكتروا منها، ركّزوا على القيما.
تلك المشاغلات المرحة، كانت كافية لإعلان وصول الهادي لوكس لبيت المناسبة. بعدها يتجه مباشرةً حيث لمّة الدلوكة، يُخاطب الفتيات بلهجةٍ آمرة:
- بالله يا بنات أيِّ واحدة ما بتعرف تغني تساعدنا بالصفقة، والما بتقدر تصفق، تساعدنا بالسمع.
ثم من بعد، يطلق لصوته العنان، غير مهتم بإيقاع الدلوكة الذي –قسراً- سيلحقه:
[عشان بريدو أديتو وردة بيضاء/ أداني وردة زادتْ عليّ الريدة/ عشان قلوبنا ما تفترق يا صيدة/ ولو افترقنا في الجنّة تاني نعيدا/ وين البلال ما جانا].
يستعين الهادي لوكس على ضبط إيقاعه بالاحتفاظ دوماً بفنجان القهوة أبْ نجوم، يحمله طوال الحفل بيده. يطرق به برفقٍ على الخاتم الكبير (أبْ فاروصة)، الذي يرتديه دوماً على يده اليسرى. يطرق على الفنجان حسب نوعية الإيقاع، خفيفاً كان أو سريعاً أو عنيفاً. لكن في بعض المرات عندما يغرق في اللحن، ويسخن إيقاع الدلوكة، يصادف أنْ ينكسر الفنجان على يده. وعليه ففي يده بعض العلامات على ذلك.
لكن في حال عدم توافر الفنجان، فهو يستعين على حفظ إيقاعه إما بالطرقعة التي يُحدثها عبر أصابع يديه الاثنتين. أو بالضرب الخفيف بمقدمتي قدميه.
بعض المتابعين من شلتنا، (شلة البهجة والسرور) كما كنَّا نسميها، كانوا يشيرون إلى علاقةٍ ما، تجمع بين الهادي لوكس، ومشاعر سمرة. علاقة تتعدى الثنائية التي كانا يقومان بها وهما يُغنيان في المناسبات العامة في الحي. لكنهما لمْ يلتفتا إلى متابعتنا وقوالاتنا عنهما، فما إنْ يحل الهادي لوكس على حفل حتى تتسلم مشاعر الدلوكة، بإيعازٍ من الهادي في البدء، ثم تطور إلى إلزام، وإلى تعوُّد في الآخر. تتسلم مشاعر الدلوكة، تطرق عليها خفيقاً لتتبين المسكة الجيدة للدلوكة، ثم ما تلبثْ أنْ تضعها في حجرها، وتمتلك زمامها فتطيعها، وتصبح طوع يديها. وهو ما أهلها لنيل شهادة الهادي لوكس، الذي يقول:
- يا بنات اتعلمّن من مشاعر، شوفنّها كيف بتخمّج الدلوكة.
ثم ينطلق في الأغنية التي يؤديها في الحفل الواحد أكثر من مرة، ربما يهيّج بها الإيقاع، أو ربما يستعطف أهل المناسبة للتعجيل بشاي اللبن:
[يا غيمة/ ضاري الشمس/ خلي العريس يقدر يمش/ يا غيمة].
ويردد المقطع كثيراً، حتى تدخل الجلسة كلها في جو الغناء، بعدها ينطلق صوته، واضعاً يديه على مكان قلبه، ومغمضاً عينيه:
[نار يا نارنا/ نار يا ناري هوي/ ناري يا نارنا/ أنا ناري أنا ناري أنا وأنا]
أما في ميدان الرابطة، حيث كان لمبارياته في الثمانينيات صيتها ومتابعتها العالية، ونجومها المعروفون؛ كان الهادي لوكس أحد نجوم الرابطة، لكن على طريقته التي تخصه. كان يُعلّق على المباراة بطريقة ساخرةٍ، تجمع من حوله الجمهور. ومستقبلاً تطوَّر الأمر إلى تحوله إلى معلّق جاد، تدفع له إدارة الرابطة بعض المال للتعليق على المباراة، لإكسابها بعض المتابعة، حيث خصصتْ له مايكروفون، وكان ذلك قبل دخول الكائن المسمى “الساوند سيستم”.
لم يكن أحد يعتبر الهادي لوكس من المجانين، فهو شخص أليف، على الرغم من كونه مفتقداً لعقله منذ وفاة والدته ووالده في حادث حركة مفاجئ، لم تحتمل حساسيته المرهفة، وقلبه الضعيف هذا الرحيل. فبدا ساهماً لأكثر من شهرين، بعد وفاتهما، وغير قادر على الحديث. حتى عندما انطلق لسانه بالحديث، انطلق بالغناء، في حفل دلوكة لأحد الجيران. ومن ديك وعيك.
عادتان صاحبتاه طوال حياته، ولم يتخلّ عنهما، على الرغم من حديث الناس إليه كثيراً، ومحاولة معالجته عبر الأطباء، والاختصاصيين النفسيين، أو الفقرا. العادتان هما: عبوره الشوارع دون وضع أيِّ اهتمام للسيارات العابرة، خاصة السفرية منها. والثانية خروجه في ليالي موجات البرد العاتية خفيفاً دون ملابس برد. فقط يجلس أمام شباك أقرب فرن، ليأخذ رغيفاً ساخناً، يأكله وهو عابر من شارعٍ إلى آخر.
أحد الأيام الحزينة في الحي، كان رحيل الهادي لوكس، الشاب الوديع، الفَكِه، وصاحب الصوت الطروب. حيث لم تنتبه له إحدى السيارات العابرة، فصدمته، ولم ينتبه سائقها إليه إلا وهو طائحٌ في الهواء. حمله لأجل الذهاب به لأقرب مستشفى، لكن روحه الرفرافة كانت قد فارقتْ.

عبد المنعم حسن محمود

نهرٌ بارد

عبد-المنعم

إنها الرابعة عصراً. هكذا تشير عقارب الساعات الذهبية الملتفة حول معاصم الفريق المنظم للحفل بثيابهم الموحدة.. قميص، سروال، حذاء/  أبيض، أزرق، أبيض.
ينظر أفراد الفريق بعيون جاحظة في وجوه بعضهم. البعض فخورون بما تم إنجازه. يلتفون حول دائرة خالية من معداتهم، ويقتسمون ابتسامات الرضا بالتساوي.
الشمس بكامل هيبتها حاضرة، ذات الشمس التي ستشهد بعد قليل، إذا ما سئلت، بأن كل شيء كان مرتباً وأنيقاً وفق الخطة المتفق عليها.. الأسِرّة الفخمة المصنوعة من الخشب في المقدمة.. في كل سرير لحاف إسفنجي مغطى بشرشف لامع اللون.. المساند التي تحتفظ في داخلها بريش النعام، تشتهي في سرها مجموعة من كبار الشخصيات، كي يسندوا عليها أجسادهم الطرية. أمام كل سرير طاولة زجاجية مظللة فوقها قوارير معبأة بمياه معدنية باردة.. ألواح متعددة الأشكال من حلويات شرقية مغلفة بعناية.. خلف الأسِرّة مقاعد وثيرة من جلد صناعي جاهزة لمؤخرات رجال الصف الثاني..  وجوار كل مقعد طاولة خشبية مستوية يحف سطحها إطار سميك يحمي العصائر المعصورة عصراً حلالاً من الانزلاق، بجانب أنواع من التمور الواصلة للتوِّ من المدينة المنورة.
مقاعد بلاستيكية تقبع بزواية منفرجة في الصف الثالث، وطاولة حديدية صغيرة فوقها أكواب تحوي مشروبات بلدية متنوعة، بتنوع القبائل التي تصنعها.  تتوالى الصفوف وفق القاعدة التنازلية التي اجترحتها عقول منظمي الحفل. في الصف الرابع مقاعد صدئة بثلاثة أرجل يصلها أنبوب من الشبكة العامة للمياه، ثم تتدرج الصفوف مبتدئة من الحجارة المغلفة بكراتين فارغة إلى علب الحليب المجفف الفارغة سعة ثلاثة آلاف جرام، مروراً بسجادة من السعف المحلي ثم التراب المستوي، وأخيراً صف المجاري التي ترحب عادة بكل قاذورات المدينة.
المسرح أنيق اليوم بحلته الجديدة وبينه وبين الحضور مسافة ثلاثين متر فقط. ستار أبيض محفوف بخطوط حمراء مسدل كخلفية.. سجادة تركية خضراء منبسطة على أرضية الخشبة.. مكبر صوت كقبة صغيرة يتدلى من سقف غير مرئي يبدو أقرب لقبضة طفل مشاغب، لا يرغب في الانتماء هذا العام لواحدة من رياض الأطفال.
عقارب الساعات الذهبية المثبتة منذ الصباح الباكر، في سواعد الفريق المنظم للحفل، تشير إلى ساعة الصفر، وعلى الحفل أن يعلن عن فقرات برامجه.
سيارات يابانية فارهة بلا صوت يفضح حضورها، تقترب من طرف الميدان. رجال المرور فرحون بمهمتهم الجديدة، لدرجة الابتسام. يتقدم أحدهم جهة السيارات بثياب نظيفة ولامعة. صافرة ملونة تم تصميمها في ماليزيا بشكلٍ انسيابي يضعها رجل المرور بين أسنانه، ينفخ عبر فتحتها الخلفية نصف نفخة. موسيقى حالمة تنساب في الفضاء. يشير بيده اليمنى الداخلة في غشاء أبيض ناعم لسائقي السيارات.. تستجيب السيارات بأريحية وتصطف في ترتيب أنيق في طرف الميدان.
يلهث مدير الجامعة بقامته القصيرة المترهلة، بخطوات مرتبكة واسعة، جهة ضيوفه من كبار الشخصيات التي تُشرف بحضورها الآسر هذا الاحتفال ابتهاجاً بتخريج دفعة جديدة من طلاب أشهر كلية علمية في المنطقة، يفتح ذراعيه كمن يريد أن يستشهد من أجل قضية عادلة، ويدخل ضيفه الكبير المحترم مدير الأراضي في حضنه، يرافقه بأدب جم حتى يجلسه في إحدى الأسِرّة الفخمة المواجهة بشكل مباشر لعمق المسرح. يتنازل المدير عن ابتسامته ويهبها مجاناً لمدير الأراضي، ثم يركض مرة أخرى مقترباً من ضيفه الثاني المحترم جداً سيادة الوالي. يضع أصابع ذات أظافر نظيفة ومقلمة بعناية فوق كتفه، ويرجوه أن يشرف هذا السرير الفخم بمؤخرته. يسحب منديلاً ورقياً ويحيط به خاصرة قارورة مياه معدنية، ويزجها بين شفتيه، ليهرول بعدها جهة ضيفه الثالث والأخير،  سيادة المعتمد. يضغط بيده ضغطة خفيفة ولينة وموحية على يد المعتمد ويرافقه بنظرات لا تفارق الأرض إلى حيث ينتظره السرير الثالث. يدخل المدير يده في جيب سرواله، ويخرج مفتاحاً، يخنق بإصبعين فقط عنق زجاجة تحوي مشروباً غازياً مثلجاً، ويتمكن من غطاء الزجاجة باستدارة المفتاح. ينزع الغطاء بالمفتاح دون أن يهتز المشروب الغازي ثم يحشر نصف الزجاجة برفق  في فم ضيفه الكبير جداً.
مرتادو الصفوف الخلفية يتوافدون بهدوء، ويحتلون أماكنهم بلا ضجيج. الطلاب المحتفى بهم كخريجين من الكلية الشهيرة يقفون خلف كواليس المسرح، يرتدون معاطف سوداء وعلى رؤوسهم قبعات دائرية في انتظار صافرة البداية. يستعير أحد أفراد الفريق المنظم للحفل الصافرة الماليزية، ويبث موسيقى حالمة. يقفز المدير إلى خشبة المسرح، يحمل بين يديه دجاجة تفرفر تزن كيلوجراماً واحداً من اللحم الصافي. وقبل أن يشرع في إلقاء كلمته على الحضور مبتدئاً إياها بتحية كبار ضيوفه من الشخصيات المهمة، التي تجعل من مهمته مهمة صعبة، يرميه مشاغب يقف في مجرى من مجاري المحلية التي تم حفرها مؤخراً استعداداً للخريف، ببيضة نعام كبيرة ومغايرة لحجمها الطبيعي. تنتفض الدجاجة انتفاضة امرأة واحدة، وتحرر نفسها من بين يديه، تجري الدجاجة برجل واحدة وتجلس بتهذيب تام جوار سعادة الوالي كتفاً بكتف. يلتقط المدير بيضة النعام الصادرة من المجرى العام بطريقة ماهرة، يحسده عليها كازياس حارس مرمى برشلونة أو ريال مدريد، فأنا لست متأكداً لأيّ فريق ينتمي هذا العملاق. يصفق الطلاب المحتفى بهم بحماس شديد، لحارسهم العجيب من خلف الكواليس. يقشر المعتمد بأظافره التي استطالت في الحال البيضة، ويرميها من مكانه جهة مدير أراضي الفاتح فمه على آخره وهو جالس في سريره الفخم، ليشرع في تمزيقها بأسنانه بتمهل، ثم يصدر صوتاً عندما يلصق سطح لسانه بتجويف فمه الأعلى، يمد يده، يفتح قارورة مياه معدنية جديدة، ويعيدها فارغة فوق الطاولة، يحمد الله كثيراً على هذه النعمة ويصمت.
يترجل المدير عن الخشبة، وقد قرر في سره في هذه اللحظة التاريخية، أن يترشح لدورة أخرى هذا العام، وفق قانون الانتخابات الجديد.
فاصل غنائي مختار بعناية من الغناء الصاعد المتكسر المتسيد الساحة الفنية. سعادة الوالي يقفز فوق اللحاف ويتمايل طرباً. مديرالأراضي ينزع عن كتفه مائة متر حيازة نجوم، ويرقص بعصبية على أنغام الفنان الصاعد لتوه في نفق الغناء. يتشظى المعتمد بصمت أمام خشبة المسرح، ثم يبكي بتشنج بكاءً حاراً لا دموع فيه، وهو يتذكر الأيام الخوالي، وكيف كان حاله عندما كان خريجاً جديداً، وكيف أن المؤسسات الزراعية التي كانت تحسب على أصابع اليد الواحدة في المركز والهامش.. كانت تتنافس عليه تنافساً حاداً، لا تنازل فيه وتبرم معه العقود منذ أن كان في الصف الأول في الجامعة.
ينتهي الفاصل الغنائي. تتقدم فتاة مثيرة لدرجة التحرش، رسبت في جميع المواد بطريقة تهتز لها الأفئدة من المدير، وتضع بين يديه لوحاً من ثلج.. تختبئ شمس ملتهبة في تجويفه. يحمل سيادته الشمس بإصبع واحد، ويضعها بين فخذي الوالي، ثم يشرع دون أن يستأذن من أحد في نزع ملابسه مبتدئاً من القبعة التي على رأسه، ومنتهياً بآخر قطعة قماش صغيرة ملتصقة بجسده اللدن. يتدحرج عبر الدرجات المؤدية إلى خشبة المسرح، يربط لوح الثلج في طرف الحبل الذي يتدلى منه مكبر الصوت، يقف مستقيماً تحت الثلج، يأخذ حماماً بارداً، يستعيد شمسه المختبئة بين فخذيه ويتدفأ بلهيبها، يرتدي ملابسه على عجل، يدخل إصبعين من أصابعه داخل فمه، يمدُّ لسانه قليلاً للخارج، ويطلقها صيحة داوية يستجيب لها الحضور بتصفيق حار.
الفأر الذي كان يغط في نومٍ عميق في المجرى الخلفي، أيقظه التصفيق الحاد. تذكر القطة التي كان يطاردها قبل أن يداهمه هذا النعاس المفاجئ. مارس رياضة خفيفة ثم تجول تحت الأسِرّة والمقاعد والكراسي والحجارة وعبوات الحليب المجفف الفارغة، بحثاً عن قطته الضائعة. أفسح الفأر أثناء تجواله الطريق لنملة تحمل فوق ظهرها برميل نفط وتتقدم به واثقة من نفسها جهة المسرح. تقترب النملة من الستار الأبيض، تنحني وتضع البرميل فوق السجادة الخضراء، تزيح بفمها غطاءه، تدخل يدها في الفتحة بين القميص واستدارة صدرها، تخرج فرشاة رسم سرقتها في وقت سابق من فنان تشكيلي كبير انتحر مؤخراً. تغمر الفرشاة في لزوجة النفط، وتقف بشكل مستقيم، ترسم على الستار الأبيض ظلها بكل أمانة أدبية.
الشمس ما زالت حاضرة بقوة وكذلك الذباب. توافدَ الطلاب من خلف كواليس المسرح، واصطفوا فوق الخشبة في شكل هندسي مهيب، يحملون شهاداتهم الجامعية في أيديهم كأنها أنابيب بلاستيكية صغيرة، يلتف حول خصرها حزام من الحرير الناعم. يترجل المتحدث باسم الطلاب عن الخشبة، ويركض جهة المدير، يقبِّله قبلة سريعة ثم يمسح بطرف معطفه بقايا بصاق علق في جبهته، ويعود بذات الطريقة إلى الخشبة. يسحب مكبر الصوت إلى أسفل حتى يوازي قامته القصيرة، وقبل أن ينفخ ثلاث نفخات فيه، يمزق المعطف والقميص من الجهة التي تغطي صدره. تظهر لوحة مضيئة استخدمت فيها أشعة الليزر. تتحد أصوات الصفوف من صف المجاري إلى صف الأسِرّة الفخمة، وتقرأ بصوت مرتفع ما كُتب على اللوحة:
[ما حك جلدك مثل ظفرك] الأشجار المنتشرة بعشوائية في ساحات الكلية العلمية، ما إن شاهدت المشهد حتى تركت جذورها خلفها ورحلت. يضحك المعتمد حتى تدمع عينه اليمنى. بائعات الهوى والأساور والإكسسوارات اللائي ينتظرن خارج الحفل البهيج، مللن الانتظار، ولعنَّ في سرهنَّ عقارب الساعات الذهبية، التي تلتف حول معاصم الفريق المنظم للحفل، التي لا تشير إلى أوان انتهاء الحفل، وفق الوقت المتفق عليه.
أول الدفعة وأذكى طالب في الكلية، يستعد الآن لإلقاء كلمته. يعتلي الخشبة، يواجه الحضور الكريم، يصيبه هلع مباغت، وهو يراقب ثوراً يلون بطنه بألوان حمار الوحش، ويعلق في عنقه حزمة علف. يمر الثور أمام كبار الشخصيات في تهذيب مفرط، يلقي عليهم تحية سلام تعظيم، يعتلي الخشبة ويقترب من أول الدفعة، يندفع بتركيز جهة بطنه، يصنع فيها تجويفاً كأنه شبه منحرف، رسمه مهندس محترف بدقة متناهية. يضع الثور حزمة العلف داخل التجويف، ويستأذن بذات التهذيب ويخرج. يضحك أول الدفعة رغم الألم الذي يشعر به بسبب هذا التجويف الجديد، يضغط على العلف بامتنان ثم يقرأ بصوت جهور نصاً شعرياً لخليل حاوي أو لفائز خضور. لست متأكداً. ترميه الصفوف الخلفية بحجارة الاحتجاج، وتؤكد أن الأمر لا يخلو من استعلاء وأنها لا تفهم شيئاً من هذا النص، وعليه أن يقرأ عليهم كل ما كتبه الشاعر سليم بركات، عن حيواناته ابتداءً من الزيز وانتهاءً باليعسوب، مروراً بالطاؤوس والفهد والعصفور، لأن مثل هذه النصوص أكثر وضوحاً ومصادمة من (مَن غيرنا وجيل البطولات) وهلم جراً.
يتثاءب الوالي دون أن يستر فمه الكبير بحجابٍ. يرتبك المدير ويعلن بعد أن استعاد ابتسامته من المعتمد وبريقه من مدير الأراضي عن انتهاء الحفل. يترجل الطلاب في صمت غريب، ويحتلون المساحة الخالية الواقعة بين مقدمة الخشبة والصف الأمامي بأسِرّته الفخمة. ينزع طالب طويل القامة، بهي الطلة حذاءه وجواربه، يخبئ جورب رجله اليسرى في الحذاء. كأن الأرض انشقت فجأة يخرج متشرد أعرج ضئيل الحجم، يخطف الحذاء. تنحني هامات كبار الشخصيات، يقفز  فوقها المتشرد ويركض خارج سور الجامعة. يفاجئه متشرد آخر أكبر حجماً، يشبعه ضرباً، ويأخذ منه الحذاء، ويتجه به جهة رفيقته المنتظرة قدومه خلف جبل من النفايات، وعندما تراه وبيده فردة حذاء جديدة تقبله قبله عميقة. يفتح المتشرد الأكبر حجماً يدها ويضع فيها الحذاء. تبتسم له بأسنان صفراء ثم تغافله وتمتص ما تبقى له من رحيق. يتجاهل الطالب الذي فقد حذاءه ما حدث للحذاء، يفتح مقدمة جوربه الآخر بأصابع يده اليسرى بينما يده الأخرى تقبض على شهاداته الجامعية، يمدها جهة أسنانه. الأسنان تمزق الشهادة الجامعية، وتصنع منها قصاصات صغيرة، يجمعها الطالب في يده، يحشو بها تجويف الجورب. زملاؤه الطلاب تعجبهم الفكرة، يلتفون حوله ويمزقون بأيديهم شهاداتهم ويملأون بها التجويف. يتبرع أحدهم ويقوم بمهمة خنق عنق الجورب بحبل سميك.
الكرة أصبحت الآن شبه مستديرة. يقسم الطلاب الثلاثين متراً الفاصلة بين خشبة المسرح ومقدمة الصف الأول من صفوف الحاضرين إلى قسمين. ألف وخمسمائة طالب سوف يلعبون في الجهة الجنوبية، ومثلهم سيلعبون في الجهة الشمالية. الفتاة المثيرة التي رسبت في جميع المواد، تقف بين طالبين وفي يدها قطعة نقد، تتحدث قليلاً معهما ثم ترمي القطعة لأعلى في الهواء، تصطدم القطعة بالأرض وتستقر فوق سطحها، ينحني ثلاثتهم ليروا وجهها غير الملتصق بالأرض. تعلن البنت المثيرة بتمايلها المستفز عن ضربة البداية بآهة واحدة من آهاتها الكثيرة. أرجل الطلاب المحتفى بهم تتقاذف الكرة في كل الاتجاهات. معاطف التخرج تعوق حركتهم. تتأوه البنت بدلال فاضح. يخلع الطلاب المعاطف عن أجسادهم الهزيلة.. أبواق سيارات الشرطة تملأ الفضاء.. لوح الثلج العالق بجوار مكبر الصوت المتدلي من السقف غير المرئي لا يكف عن الانصهار. هكذا هو الثلج كما تنبأ بسلوكه عالم فيزياء فضل أن ينتحر على أن يكون ضيف شرف في هذا الحفل. لعاب الثلج ينساب بسرعة الضوء.. الماء في طريقه لإغراق المكان.
يستبدل الطلاب قوانين لعبتهم.
تتحول المباراة من مباراة في كرة القدم، إلى مباراة في كرة اليد.
الماء يطفو فوق الأسِرّة الفخمة، والمقاعد الوثيرة، والكراسي البلاستيكية والحديدية.
تغرق الحجارة المكسية بالكراتين الفارغة في الماء.
تقذف الأمواج بمعلبات الحليب المجفف سعة ثلاثة آلاف جرام
يخرج مدير الأراضي هاتفه المحمول، ويتحدث بلهجة محتدة، ولكن فيها كثير من التهذيب مع جهة أخرى.
مدير الجامعة يشهر مسدسه، ويطلق عبر فوهته إشارات للنجدة ملونة بكل ألوان الفضاء.
المعتمد يرتل بصوت جميل آية الكرسي، بينما الطلاب مازالوا يضربون الكرة شبه المستديرة بأيديهم.
من قاع الماء تطفو سفينة صينية الصنع فوق السطح..
تطلق بوقها الأخير معلنة عن أوان المغادرة..
سكان الصف الأول يتركون أسِرّتهم الفخمة ويقفزون حفاة فوق سطح السفينة..
الطالب طويل القامة، والبهي الطلة، وصاحب فكرة الكرة شبه المستديرة، يضرب الكرة بيده اليمنى بقوة خارقة. تتجه الكرة صوب السفينة التي أبحرت حالما استقر سكان الصف الأول. تصطدم الكرة بالمقصورة، تكسر زجاجها وترتطم برأس ربان السفينة، تشق جمجته إلى شقين.. يسقط الربان، يصرخ ولا أحد يستجيب. الدم حار ينثال يتسرب داخل بوصلة السفينة.. تفقد البوصلة بوصلتها.. تتداخل الاتجاهات في بعضها وتتشابك. الشمس تعلن عن غيابها.. يحل الظلام.. سكان السفينة يتخبطون ويفكرون بصوت هائج علّ أحدهم يعطيهم فرصة أخيرة للحوار مع هذه الأمواج.

عبد الجليل سليمان

ذاكرة عرقي العيش

جليل سليمان

يجُرّه من أُذنه تارةً، وأخرى يدفع بنتوءِ أسفل ظهره إلى الأمام، فيثغو التيس الأسود، ويلهث هو لُهاثاً مُتقطعاً كنياطِ قلوبِ العاشقين، المطر يرشح وجهه، يغسل البثور المتناثرة عليه جراء (فقعة) بطريقة قاسية لحب الشباب الذي احتل صفحتيه في مراهقته المبكرة.
يتحسس وجهه، وبسبابته المُقوسةِ يُزيح عنه قطرات المطر، يأخذ نفساً عميقاً، يتذكر إذ ظل يطاردها سنيناً، وتتمنع عنه، يتذكر لقاءهما العاصف على مشارفِ سفح جبل “مكي الشابك”، والشمس ترسل أشعتها المطفأة على وجهيهما كأنها تريد أن تخبرهما بأن أزف الرحيل، رحيلها ورحيلهما، قالت له بصرامة: (هووي يا أب وشاً مطقع زي صحن الطلس، أختا دربي دا، أنا عندي مُستقبل وما فاضية ليك).
وكأن ثُعبان اندفع مارقاً من هامةِ رأسه، تاركاً سُمه يسري في بدنه، انهال عليها صاعاً بصاعين وأكثر: (أخير أنا الطِّقيع دا بتعالج، بعدين أنا راجل، إنتِ الدنيا دي عارفاك وعارفه أنو أمك بتبيع العرقي، والسكارى البتلموا في بيتكم ديل، ما بكونوا…)، وطاخ، هوت على وجهه بصفعة داوية خلخلت ضرس عقله، وأعادته إلى رشده.
(1)
يدفع بمؤخرة التيس الأسود الناتئة، يرفض أن يتحرك، المطر ينهال بكثرة، التيار الكهربائي ينقطع، أرعدت، البرق يخطف ما تبقى من بصرة، يكاد ينهار.
يُمسك بقائم التيس الخلفي، أهو اليمين أم الشمال، لا يتذكر الآن، ويجلس على الأرض اللزجة، يا لتلك الليونه إذ تتسرب أسفلك، تُعيدك إلى طفولتك، إذ لم توفر (لحافاً) إلاّ انفتح عليه صنبورك البيولوجي، كما كان يسميه أخوك الضالع في اليسار. قررت والدتك أن تشتري لك (برشاً)، حتى تنضبط مثانتك فتعيدك إلى اللحاف القُطني الوثير.
(2)
تحسس أداة جلوسك بيد، وتختبر عناد التيس بالأخرى إذ تهز قائمه بحنق، فيرتمي جوارك أرضاً. تكاد دموعك تحاكي المطر، خرير (خور مقاديم) يصك أذنيك، يهرج فيهما مثل (أبي مريومة)، تنهض ويدك ممسكة بقائم التيس، تنهض بقوة، ثم بكلتا يديك ومرة واحدة ترفعه على كتفيك، وتمضي تترنح على الأرض الزلقة، بالكاد تحافظ على توازنك، تئن ويثغو، جسدك يتعرق، وكتفيك تؤلمانك، قواك تكاد تخور.
(3)
كن قوياً، (خليك راجل)، عباراتها المؤلمة لا زالت تغشاك، تماماً كصفعتها الداوية. تُطلق رئتيك بأنفاسٍ مُتقطعة وأنت تطرق باب الفكي “صبو صافي” بعنف، ترخي حواسك كلها لترصد بدقة إيقاع قدمين محتملين، تطرق بعنف، مرة، اثنتيْن، ثلاث، أربع، ثم صوت هامس، يأتيك (أيوه أيوه)، فترفع مفاصل أصابعك الخمس عن لوحِ البابِ المصنوع من بقايا صفيح فارغ يخص (حلاوة طحنية سعد).
(4)
رائحة (عرقي العيش) الفائحة من فمِ ومنخري (حُوار الفكي)، تُنعشك، تستدرك، تتحدث لأحشائك فقط: (هو الفكي اسمو صبو صافي، يعني حوارو، ح يشرب مِحاية)، ثم تُدندن بأُغنيةٍ قديمةِ (عرقي العيش سوّاها فينا).
(فدّل)، أي (تفضل)، يأتيك صوت الرجل الأجش وكأنه حمولة تفوق هذا الكائن الأسود على كتفيك، فتتنزع نفسك بعسرِ شديدِ عن ذكرياتك المؤلمة، ها أنت تضع قدمك اليُسرى على عتبة الباب، وترفع باليمنى إلى الخطوة الأولى نحو (قطية الفكي صبو صافي)، لكن خطوتك تطيح إذ تطيح قدمك في فراغ الأرض الواطئة تحت (العتبة)، فتسقط، ويفزع الذي على كتفيك ويرسل إلى وجهك (رفسة) قويّة، فقأت عينك اليسرى، رفسة غيرت حياتك كلها حتى اسمك انطمس تماماً، لا أحد يعرف اسمك الحقيقي فالكل ينادونك (طافي لمبة).
(5)
حوار الفكي، يتركك مغشياً عليك، وبخطوات مترنحة، وطريقة مضحكة يجري وراء التيس الأسود الهارب، لكن “الفكي صبو صافي” الذي كان يراقب المشهد برمته من كوة صغيرة على باب كوخه (أشبة بالنافذة) زجرة بعنف (إنت يا هارون، تيس دا داخل لجوة، جاري وراهو ليه، أمشي شيف زول واقع دا)، فاستدار “هارون” دورة كاملة، ليفجع بعينك اليسرى وهي تنزف.
إلى مذبحِ القرابين من (ديوك بيضاء، تيوس سوداء، وخراف قرناء)التي تقدم لـ” صبو صافي”، أُقتيد التيس وأنت، وبينما كان “الحوار هارون” الثمل يطأ عنق التيس و(يشلح) مديته الحادة المربوطة على عضلة ذراعه الناتئة، وهو يهلل ويكبر، كان “صبو صافي” يضع خلطة ذات رائحة نافذه على عينك المفقوءة وهو يهمهم بكلمات سحرية.
عنق التيس تحت رحمة السكين، عينك تحت الضماد ذي الرائحة النافذة، غرغرات خروج الروح تصدر عن حلقوم التيس، بينما روح عينك تخرج عن بؤبؤها مرة وإلى الأبد.
(6)
انتظرت حتى توقف المطر، توقف نزف عينك، لكنك فقدتها، لم تمضِ أيام قليلة، حتى صار اسمك (طافي لمبة)، لم تمضِ شهور قليلة حتى اُختُزِل في (طافي). نفحك الفكي “صبو” هكذا كانوا يختزلون لقبه كما يختزلون لقبك، نفحك بعض النفاثات و الطلاسم والأعشاب، و ردد لك بإلحاح طريقة استعمالها ثلاث مراتك (شيف مرة دا مسهور، دا يستهما بي، ودا يشربو شراب، ودا يمدغو مدغ).
خرجت بعين واحدة، وبدون تيس، وتحت سماء صافية كنت تضع يدك على عينك، وتحمل بالأخرى الكيس الورقي المحتشد بالطلاسم، وتمضي إلى بيتك مثقل الخطى، كسير، بعين واحدة واسم جديد.
(7)
ها أنت تولد الآن، عقيقتك تيس أسود، و وسمك عين واحدة.
تكترع كباية عرقي العيش جرعة واحدة، وتحكي: يوم قال لي ( لما لطشتني أم كف، وقالت لي: (هووي يا أب وشاً مطقع زي صحن الطلس، أختا دربي دا، أنا عندي مُستقبل وما فاضية ليك)، قلت إلاّ أعرسها، ود عمي “علي” ساقني لـ” صبو” أداني عروق كدا ” شكل سفوفة”، قال تكشحو في بولها، طوالي تقبل بيك، طبعاً زمان ما كانت في أدبخانات في البيوت، كنا بنطلع الخلا، الرجال بالنهار والنساوين بالليل، أها قمت لبدت ليها، لمن خلصت (زي الناس) قمت كشحت فيهو السفوفة، أقسم ليكم برب الكعبة اليوم التاني جات بيتنا من دُغش الرحمن، قالت لي: لو عايزني اتقدم، ويا هو زي ما انتو عارفين مما اتقدمت ليها ولهسي أنا راجع لورا، لمن بقيت (نص زول).
(8)
يتجشأ “طافي” كأسه السابعة، تنطفئ عينه الأخرى، كعادته يقوس سبابته لينفض عن جبينه العرق برائحة (عرقي العيش)، ثم يدندن بصوت خفيض (ما نسيناك، نسيناك.. جاي تعمل إيه معانا.. بعد ما بدلتنا)، فيرد عليه نديمه (ما سقيناك، سقيناك)، ويتوقفان برهة، ثم يواصلان الأغنية وهما يقهقهان بصوت عالٍ ومتهدج (سقيناك السم الهاري)، ويحضنان بعضهما مُنخرطين في نوبةِ بُكاء طويلة.

الهادي راضي

صَيْد القَمَارِي


هادي راضي

هو وحده من يدري لماذا أهديه هذا النص..
إلى: القذافي يوسف
أَخْبَرتَ أنّ:
بلة أب دِميعات، حسن سِنّة، وموسى الأصلي، أصدقاء يمتهنون صيد القماري. اختاروا مكاناً على ضفة النهر. المكان بعيدٌ عن المُشرَع وقريبٌ من كَمْبُو كَجَانَا. صيد طائر القمري يحتاج مهارة ودربة لا تتوفر إلا لاثنين منهما، – بالأحرى هو واحد فقط – موسى الأصلي، الذي علّم حسن سِنّة سر المهنة. بلة أب دِميعات شرير وماكر، لا يصلح لشيء إلا لإقناع السكارى بشراء القماري واستخدامها كـ(مَزَّة).
كل مساء، يأخذ ما اصطاده صديقاه من قماري، ويتجه صوب كمبو كجانا لبيعه هناك. يشتري بثمنه لحماً ورغيفاً، شاياً ورطلاً من السُّكَّر، وبعض أشياء يوصيه بها رفيقاه كل مرة. أحياناً يجد تعنتاً وعدم رغبة من بعض السكارى في شراء القُمري، فيستخدم أساليب ماكرة لإقناعهم، تارة يقول لهم إن القماري من سلالة طائر المَن الذي ورد ذكره في الكتاب المسطور، وأنها طيور مقدسة، من تناولها على سُكرٍ، لن يصيبه مكروه أبداً حتى يفيق. وتارة يقنعهم بأن سر نشوة السُكر تكمن في جناحي طائر القمري. مَنْ أكل مِنْ الجناحِ الأيسر بعد الكأس الأولى، وواظب على المنوال الفردي لعدد الكؤوس، سينتشي نشوة ما بعدها نشوة، وتكتمل سعادته إذا واقع من خُلقت من ضلعه الأيسر.. وسوف لن تستبدل بعده رجلاً طيلة حياتها. أما الجناح الأيمن، لكي تتبدى سطوته على جلب النشوة عند السُكر، يُقَسّم إلى قسمين غير متساويين، القسم الأكبر يأكله من أراد السُكر قبل الشروع في السُكر، والقسم الآخر يجب تناوله بعد الكأس الأخيرة مباشرة. من فعل ذلك – يقول بلة أب دميعات – سينام قليلاً ثم يصحو، فيرى الرجال مثل النمل، والنساء كفاكهة، ورجال الشرطة أقزاماً يجب وطؤهم بالأقدام.
وقلتَ إنهم:
كل مساء، قبيل مغيب الشمس، ينشرون شباكهم على حيز مقدر قرب ضفة النهر، ينثرون الذرة عليها لخداع القماري التي ستحط مثل كل مرة وتتورط في فخاخ تقودها إلى الفناء. عندما تحبل الشباك بالصيد، يبدأ كل منهما طقسه الذي يسبق الذبح. موسى الأصلي يتوضأ ويصلي ركعتين في وقت لا تجوز فيه صلاة النافلة. يقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وآية (وأرسلنا عليهم طيراً أبابيل)، وفي الركعة الثانية يقرأ الفاتحة وآية. بعد أن ينهي صلاته يحمل سكينه ويتجه ناحية القماري في فخها، يُكبِّر ثلاثاً ثم يبدأ الذبح. حسن سِنّة لا يصلي.. ولكنه يبتدر طقساً يخصه في كل يوم، مرة ينتقي بعض القمريات ويطلق سراحها، متعللاً بأن لها صغاراً تركتهم في مكان ما.. الأمر الذي يغضب بلة أب دميعات ويقسم كل مرة بأنه لن يحمل القماري إلى السكارى – ولكنه يفعل- وتارة يقوم بذبح أعداد فردية لا تتعدى الثلاث. ومرة يدخل النهر عارياً ويخرج ليكمل الذبح مع موسى الأصلي. بلة أب دميعات بوجهه الطفولي وعينيه الدامعتين على الدوام بسبب التراكوما، وحجمه الضئيل وهيئته الرثة، يرصد كل ذلك وهو جالس تحت ظل شجرة ينتظر دوره في حمل القماري إلى كمبو كجانا، حيث الزبائن ينتظرون أو لا ينتظرون مجيئه.
وذكرتَ أن:
حسن سِنّة وموسى الأصلي استرابا في أمر اللحم الرديء الذي يجلبه بلة أب دميعات من سوق كمبو كجانا.. فاستفسرا منه أكثر من مرة، وحجته دائماً أن الجزارين لا أخلاق لهم، يذبحون البهائم الباطلة ليزداد ربحهم. لكن موسى الأصلي اكتشف الأمر ذات يوم صدفة عندما ذهب لإصلاح مذياعه. رأى بلة أب دميعات  جالساً في مطعم السناري يتناول وجبة دسمة – السناري طباخ ماهر، اشتهر بتقديم وجبة لحم الضأن المشوي، المتبل ببهارات لم يكشف سرها لأحد. ومطعمه لا يرتاده إلا ذوو المقدرة المالية الوافرة – موسى الأصلي رأى بلة أب دِميعات هنالك، انتظر حتى فرغ من تناول وجبته وصار يراقبه من بعيد. رآه يتجه صوب صف الجزارين.
ما لم يتوقعه موسى الأصلي هو أن يستقل بلة أب دميعات هيئته الرثة في التسول. رأى الجزارين يرمون بقايا اللحم التالف والمعضمية وكل ما  لا يصلح للاستخدام الآدمي في إناء بلة أب دميعات. بعد أن امتلأ الإناء، أفرغه في كيس بلاستيكي واتجه صوب النهر. باغته موسى الأصلي من الخلف وأراد أن يفتك به، لكنه أفلت من قبضته وأطلق ساقيه للريح.
وقلتَ إن:
بلة أب دميعات لم يتوقف عن الركض حتى تسلق لوري الصول عجبنا المنطلق إلى المدينة.
بعد مدة جاءت الأخبار بأنه عمل بستانياً في إحدى الجامعات.
بالأمس أخبرتَ:
أن ثمة طالبين وافدين من دولة آسيوية يدرسان في ذات الجامعة التي تتلقى فيها العلم.. يمارسان صيد القماري داخل حرم الجامعة. رأيتهما عابرين تحت الأشجار الوريفة، يتلصصان على أعشاش القماري فوق الأغصان. أحدهما يحمل نبلةً، والآخر يحمل سكيناً ومخلاة. قلت إنك أبصرت الأول يرمي قمرية ركّت على أحد الأغصان، فأصابها حتى طارت ريشتان من جناحها وحطتا عمودياً على جانبي رأسه، فبدا مثل هندي أحمر – لو أنه وضع يده على فمه وصاح، لصار مثله تماماً -  والآخر تلقف الطائر المسكين قبل أن يسقط على الأرض وذبحه وهو واقف. لو أنهما يدريان أن خلف أسوار الجامعة وعلى بعد كيلو مترات قليلة، ثمة مكان تباع فيه مريسة كافرة.. لو تذوقاها واستخدما صيدهما الثمين كَـ(مَزّة).. لا محالة فهما باقيان هنالك إلى الأبد.
ولكنهما لا يدريان..
أو..
ربما سيدريان، طالما أنك لمحت بلة أب دميعات (يتحاوم بهناك)، يسقي الأشجار الوريفة.

سلمى صلاح الدين

يناير الأخير.. موت شتاء وربيع العودة إلى الله

سلمى

قبضة الرجل تؤلمني.
قبضته على معصمي تؤلمني ويد أخرى تهزني فيصعد السائل إلى حلقي، سائل آخر يرتديني اليوم (أصبحت معرضاً للسوائل).
أمي بردائها الأخضر تقفز من حلمي لحافة الفراش وأخي خلفها، يصعد ظلهما علي جسدي، تهزني، أتمطى، أبتسم بعينيّ وتقابلني عيناها حمراوين – على غير العادة – أود لو أملك صوتاً ليرحب بها، لكن صوتي كان ما يزال نائماً جواري.
تلبسني، تتمتم في أذني –كعادتها- كلما صحوت ببضع آيات، تصب في جوفي السائل الأبيض، تفرك رأسي ثم تسحبنا خلفها، نتجاور على عتبة الدار الخارجية، تتوسطنا حقيبة بفمٍ مفتوح تتطاول عبره قطع ملابس أقحمت على عجل، غريب!!
أسألها :
- إلى أين يا أمي؟
- إلى جدك يا منتصر.
دقائق ويملأ الهتاف المكان، مركبات وخلق كثير، تضيع أمي مني وسط النسوة الملتفات بالثياب ويضيع أخي، أراه بعيدا بعيدا محمولا على أكتاف البعض وأنا كما أنا، يتجاذبني غرباء يكبرون يهللون ونسوة يغردن..
قلت أصبحت معرضا للسوائل، أنا صاحب السنوات الأربع ولأول مرة أفعلها على نفسي، الجو بارد فنحن في (يناير)، معدتي يملؤها الحليب وأمي نسيت أن تأخذني لأتبول، كل هذا ودوار يمسك بأذني رأسي ويشدهما، حاولت أن أعدو تجاهها.. أمي.. لكن السائل يملأ بطن حذائي وينذرني بالخروج، وبساقين ملتحمتين – خجلا – ومن مكمني خلف بوابتنا وقدمي تدوس أختها، رأيته..وجه أحبه ويحبني، يشق الجموع،
يطوي المسافة بيني وبينه، وكأن عينيه خُلقتا لأجلي، لوهلة حسبته يطير، لوهلة أخرى تنهدت بارتياح، ولوهلة أخيرة صرخت بصوت قطعه النشيج: عم عامر.
عامر يقبض بقوة على رسغ أخي الذي يكبرني بعامين، معتصم يمسح شيئا ما عن عينيه بظاهر يده، شيء بحثت عنه فلم أجده، لكنه وجدني حين رفعني الكف الذي أعرف لأسكن صدر عامر، شيء حار وقاتم، هاجم سني الأربع وعضني حتى العظم، وقتها لم أكن أعرف أن اليتم مبتلٌّ ومالح وأنه مناسبة لأجلها الأغاريد ُتطلق.
تلوح لي – من مأمني – قامة أمي (ليت عامر يحملها هي أيضا)، إحداهن تنحني تحتها تلبسها جوربا وأخرى تلازمها تشد الثوب على رأسها بتفانٍ غريب، ووقتها أيضا لم أكن أعلم أنهن يهيأنها كعروس تليق بعرس شهيد، أمي يا نسوة لا تحتاج أيديكن حتى تحتشم ولا زغاريدكن كي تواصل قدماها حملها، أمي – أصلا – لم تكن في المكان حيث نحن، أعلم جيدا ما يعنيه أن تتمتم بفم مرتجف، أن تخرج مسبحتها العاجية وتمرر حباتها بين أصابعها الطويلة السمراء، كل حجر بتسبيحتين، يعني أنها ليست هنا، يعني أنها هناك، تتزود بما تحتاج من معين لا نراه يعني أنها حزينة..
لا خائفة…
أنا منتصر كنت الخائف من بين الجميع.
وعامر الذي صعد بي ومعتصم إلى صندوق العربة المكشوف، أتشبث به، أدفن
وجهي في صدره فيطالعني وجه أبي: عامر أين أبي؟ أين أبي يا عامر؟
يحني الرجل رأسه، يضمني أكثر.. يضمني حتى أختنق،
لكن كَفَّيْن تنتزعانني من الرائحة التي أعرف للرجل الذي لا أعرف، تربطان شريطاً أحمر على رأسي فيكبر الجميع، خائف أنا يا أمي يا أخي أنا خائف، ومعتصم يتوسط الرجال على ظهر (البوكس) أحدهم يلقنه كيف يضم أصابع يمناه ويفرد سبابته ويشير بها للسماء…
كانوا يحتفلون…
وأنا كنت خائفاً يا أبي خائفاً.
قبضة الرجل تؤلمني، قبضته على معصمي تؤلمني.
_كُن رجلاً
_لكننى لست رجل…أنا منتصر..
تنقذني قبعة ما، قبعة وضعها الرجل – الذي ينادونه إبراهيم – على رأسي فيختفي المشهد من أمامي، الإسفلت الممتد إلى لا نهاية، عامر، الرجال معتصم، ورتل السيارات ونصّبت أذني رابطي بالغليان حولي….
سبحت عيناي لوهلة في العتمة عندها أرسلت دمعي دافئا، أرسله وأشد القبعة حتى حافة أنفي – لتخفي سائله – (أصبحت معرضاً للسوائل) والقبعة بلونها الأخضر ورائحتها الخانقة تمتلئ بالوجوه الفزعة ولسان مشقوق لمسخٍ قبيح، يمده فيلعق الحلم بحياة تستقيم بلا اعوجاج، أقسم أني رأيت تحت قماشها القاتم وجوهاً ينقصها الابتسام، وجوهاً تشبه رفاقي في الصف قبل المدرسي: نضال، أيزك، حسن، وآلاء….ترى من منهم يجلس الآن على مقعدي قرب الممر جوار آلاء؟ حسن سيفعلها، حسن سيضايقها، أفكر حينها في القفز، أسند حافة القبعة على أنفي، أرفع رأسى رويداً…رويدا… تردعنى سرعة انفلات أعمدة الكهرباء على جانبى الأسفلت.
والعربةُ تكاد تطير، والغليان يسحقني، والرجال من حولي يهتفون، تهديني القبعة نعمة أن أكون هناك، أتقافز في الممر الرملي الذي يقسم باحة المدرسة لنصفين بنباتات صباح الخير على جانبيه وطابور الصباح والرفاق الصاخبون وزينا الأزرق، وشرعت أحيي العلم، ضممت ساقيّ بقوة وأنا أغمغم باللحن الأخير – كما كنا نفعل – واستدرت أتبع الممر الرملى – داخل القبعة – إلى حيث نجلس، برودةٌ تلسع صدري، وصوت عامر يأتيني صارخاً: منتصر… منتصر.. كنت ملتصقاً بحافة العربة الباردة وعلى وشك سقوط….
معتصم… تسرى إليه حمى الهتافات فيشارك الجمع ما لا أعرف ولا يعرف….
وأنا…
سجين، ساعد عامر وساقيه… وقبعة خضراء تمنحني فرصة ألا أكون هنا.
والطريق يتلوى صعوداً وهبوطا والعربة تبتلع خيط الإسفلت تحتها وتتقيأه على طرفها الآخر، خلع الرجال ما ارتدوه صباحاً، الواحد تلو الآخر، خفت حدة الهتافات وتخلل الهواء دخان التبغ ومعتصم عاري الكتف بقميصه المنزاح من كثرة الجذب وفم خطه الزبد، شبه دائخ، وحده عامر لم يغادر نفسه، ولم تخف قبضته من على معصمي مروراً بخاصرتى وأنا…
أنا كنت هناك.
دفعت الباب وخرجت، يصفعني مزيج الشمس الحارقة وبقايا برودة ليل الأمس.
كنا في (يناير) تماماً كم كان قبل خمسة عشر عاماً، استقبلني الطريق الذي أعرف، دست عليه بخطىً خفيفة مخافة أن ينشأ بيني وبينه ودٌ وعناق، علمني ذاك اليناير ألا أقع أسيراً لحب الأماكن، وعلمتني توائمه التى تلته أنه وبلا أبيك ستختبر مراراً كيف تفارق الأماكن وتفارقك الشخوص، يومها كنا قد اعتدنا الزحف بمتاعنا القليل من قلب العاصمة إلى الأطراف فالأطراف، وها نحن ذا على حدودها حيث يغيب وجهها المتبرج ويحل بديلاً عنه وجه ريفي هادئ لأحياء أشبه بالقرى، يُخالط الناس فيها دوابهم بألفة.
خرجت تقودني ذاكرة حذائي إلى حيث اعتدت الوقوف في انتظار الحافلة تحملني إلى قلب المدينة…
أقْصُد جامعتي، الرسالة التي أضاءت شاشة الهاتف أمس كانت من سطرين مقتضبين وتعنى الكثير :
(تعال مبكراً للجامعة…الملاعين سيخرجون في مسيرة..ننتظرك في المسجد).
ترآى لى حينها وجه حسين فانقبضت.
الحافلة تهتز وتتوقف وعطر ما يجبر الأعين على الالتصاق ببابها، الجسد البض يجلس قبالتي، فتفرك رجولتي عينيها، ينتهرها الشاب الذي يرتديني لسنوات، أغمض عينى وجهي، وأرهق رئتيّ بشهيق حاد، إمام جامعنا في الحي الجديد، لا أدري من أخبره عنّا، يسبغ عليّ مدحه كلما التقاني، فقط لأن أبي مدفون في مكان ما، بلا شاهد يحمل اسمه وتنمو على رأسه نبتة لا يعرف حتى اسمها…
يصعد للحافلة طفلان ورجل..
يجلس الأصغر على حجره والثاني قرب الفتاة، كانا في مثل أعمارنا يوم هبطنا الخرطوم – قسراً – حينها تذكرت العربة الأكثر التصاقاً بي في ذلك الوقت، الحافلة الصدئة ووجوه الصغار بالشفاه المرتجفة..
معصوبي الرؤوس بعصابات حمر…
يتشاركون الزيّ العسكري نفسه، إبراهيم (والذي لم يرجع قريته من يومها) يجلس في المقعد الأمامي ومسجل يزعق بأغنيات سياط على أجساد سوداء، ورغم تشاركنا المهمة ذاتها لأشهر، لم يكن أحدنا يعرف الآخر، لم نشعر ربما بجوع السؤال وتخمة الإجابات ملء الأعين والقامات القصيرة، يوحدنا مضغ اليتم بلا توقف وبجنون، نساق لطفل جديد فقد أباه، نتنقل من (عرس شهيد) لآخر نهتف وننشد ونحمل على الأعناق، معتصم لم يكن يرافقنا، إبراهيم دائماً يختار اليتيم الأصغر، يشحن الموقف بعاطفة يتناولها الجميع فتحجب عنهم نعمة السؤال وحاجتهم إليه.
وأنا.. منتصر، كان جل ما يهمني وقتها أن أشق بعيني كتلة الجموع الهاتفة أبحث عن رأس الصغير الذي قصدناه، أبحث عن قبعة ما تسمح لبعض ذعره أن يتحرر تحتها، قد أجدها فأعلم أن ثمة ممرا رمليا يرتاده الصغير الآن وقد لا..
فأكاد أرى الكائن القبيح يعتلي رأسه يلعق زهو الطفولة ويصب الجحيم عبر أذنيه.
سيذهبون يا صاحبي…
سيذهبون ولن ترى منهم بعد اليوم سوى إبراهيم.
نقضي يومنا هناك ثم نستعد لنغادر، ومن مقعدي جوار النافذة، كثيراً ما كان يحتل السرداق الخالي زحفا لأطفال يشبهون أيزاك صديقي، غير أنهم قليلاً رماديون، يتشاركون القسمات نفسها والرجال الأعداء على شاشة التلفاز، يجمعون بقايا التمر.. وقطع الحلوى التي داسها المحتفلون، وأذكر ساعة أن انحنى أحدهم يرفع قبعة قماشية خضراء يخفي بها عينيْه…
ينتزعها فزعاً ويعدو يلحق بالبقية، أعلم جيداً ما رآه.
في طريق العودة كنا ننتجاور واجمين، المسجل يصيبه الخرس وإبراهيم مشغول بعد حزمة اوراق نقدية _ وهو يبتسم _ يوزع علينا مظاريف بها بضعة جنيهات…
وكيس ورقي به سكر..
شاي وحليب مجفف، أتذكر أمي، أشد على أصابعي فتبيّض..
وأسند رأسي على ظهر المقعد أمامي.
يناير يتلو يناير، يقتل أخي نفسه صمتاً، أمي يشعل البياض شعرها، ويخلو من اللحم ما كان مكسوا، أنا، منتصر تستطيل قامتي ويستغني عني إبراهيم…
عمري لا يناسب الدور ونظراتي فقدت تأثيرها، تتساقط من حولي الأشياء ويبقى اللقب وحده ملتصقاً بي (ود الشهيد د.عبد القادر) ينشب أنيابه في إنسانيتي، يرغمني على ابتلاع لساني كلما هممت بالسباب يثقل خطوي كلما أطلت عائشة ورفيقاتها من زاوية الطريق، يتعارك صبيان لإظهار قوتهما يغني آخر، يسب آخر، وأنا أود لو كنت أخف قليلاً….
لفعلت
جلست في المسجد أرقب حسين يتحرك بخفة بيننا لا تتناسب وضخامة جسده…
بتوترٍ يُفرغه في لحيته، حسين يعصر معدتي ثقل كلما قابلته، الرجل حتى لم يكن طالباً معنا، يُقارب عمره عمر أساتذتنا لا نحن، كنا نعرفه باسم المجاهد حسين، يخطب فينا ملوّحاً بيده اليسرى وموضع إبهامه خالٍ، ولإبهامه قصة يعرفها الجميع، دخلنا الجامعة فوجدناها هناك، حسين فقد إبهامه في المعركة، يرهبني صوته الجهور وعباراته الضخمة، أعداء.. كفرة…الشهادة كصحابي…الموت ككلب…الوطن… العروبة….الرباط.. التضحية، انقسم أمامه لمنتصرين، الأول يتابعه بحماسة ودم متسارع، والثاني يشد على منكبيه دعة أمه ورقة عامر.
واليوم…
اليوم ويناير في المدينة مقيمٌ لا زائر، كان الأول يجلس على صدر الثانى ويهز رجليه فرط حماسه، يعقد حاجبيه ويكبر.
لا أذكر كيف؟
متى؟
ولمَ؟
لكنني وجدتني أحمل أنبوباً معدنياً ثقيلا، أتقدم الصفوف خلف الرجل، نصطف، يضع هو كرسياً وننشئ نحن حوله حلقة وظهورنا للحلقة جوارنا، وفيها يعتلي حافظ منضدة حديدية فقدت إحدى قوائمها ويسندها طالبان، يبدأ حسين في الصراخ، يشير بعصاه للحلقة الثانية وحافظ لا يهتم، يتوعد بالخزي والعار، وحافظ أيضاً لا يهتم، يخلط الآيات بالسباب (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) رجال لا كلاب وخونة….
كان دوماً ما تلا رجال التي في قلب الآيات…
ومنهم من ينتظر يكررها لدقائق…
يمسحنا بعينيه يتوقف، ويقذف ظهر حافظ بعصاه.
أذكر بعدها أنني نمت في مسجد الجامعة والجرح على جبيني يوقظني كلما ثقل
رأسي وسقط، كنا في رباط حتى بعد غدٍ – يوم المسيرة – رباط داخل المدينة، قريباً جداً من أمي..
بعيداً جداً عنها…
يوقظنا صوت الآذان، نتوضأ، يغلق حسين المسجد إلا منا، تأتي عربة ما بالشاي والحليب والحلوى، أتذكر أمي فأشربه بلا سكر.
والنهار ينتصف كنا قد أعدنا تنظيمنا، تجمعنا ثم شرعنا في التحرك، القامة النحيلة تشق الجموع، تماماً كما حدث قبل سنين عددا، لكن الكف الأيمن خلا من أخي حينها، واعتصرت أصابعه بعضها، يطوي المسافة بيني وبينه، وعيناه كأنما خلقتا لأجلي، لوهلةٍ حسبته يطير، لوهلة خفت ولوهلة أخيرة همست: عامر.
عامر أخفاه الجسد الضخم الذي قطع الطريق بيننا، يأتيني صوته:
_منتصر
يرد حسين :
_منتصر في رباط
يستدير حوله ينوي تجاوزه، يدفعه حسين، فيقبض عامر على يسراه ولا يسقط
..
الجسد النحيل يقف كالطود بيني وبين حسين ممسكاً بيسراه.
_أين إبهامك يا حسين
عامر يعرفه !!!
يكتفي حسين بالسكوت
يصرخ عامر
_أين إبهامك يا رجل… ويلتفت يخاطبنا، بم أخبركم، ها؟
يندفع أحدهم نحو عامر، نحو أبي فيجدني أمامه، للحظة خنق في (الأول) و(الثاني) استقام
_حسين عبد السلام، من مواطني النيل الأزرق، فقد إبهامه في ورشة النجارة التي يملكها والده، وهوعلى عكس ما يدعي لم يرتد حتى معسكرات التدريب ناهيك عن جهاده، الرجل لا يعرف جوبا من ملكال…توريت من واو..بانتيو من نمولي، يتكلم بقوة. عامرُ كان، يتحول حسين من الصلابة إلى الغازية مروراً بالسيولة، يتلاشى من المكان كغاز أطلقته أمعاء مريض متعب، ابتسمت وأنا أتخيل الخارطة بمؤخرة تخرج حسين وأمثاله إلى مكب حقير.
تجاورنا صامتين طوال الطريق، تلقفتني أمي، وانزوى معتصم يرقبنا من بعيد، أذكر بعدها كيف أخبروني عن عامر الذي هاتفهم مساء الأمس من قريته بأعلى الصعيد، وكيف قطع المسافة بيننا بست ساعات لا أكثر.
ويناير يحتضر…
عربة تقطع ذات الطريق صعوداً إلى حيث يتجلى الوطن، سائقها ورفيقه يتسامران، وأنا في صندوقها الخلفي ومعي…عامر.
عامر أنا خائف يا عامر
يجيبني الجسد الملتف بالبياض سكونا، عامر وأنا وعربة بصندوق خلفي والطريق نفسه الذي قطعناه ذات يناير قديم، أحن للساعد الملتف حول خاصرة الصغير _ يومها _ وللساقين تحوطانني، أنكفئ أقبل عامرا، أبكي يومين من شتاء العمر، أودّع جسدين لا واحد.. أبوين لا واحد، صدرين لا واحد،
من يدفع عني اليوم ما دفعته عني يومها؟
يعضني…يعضني…يعضني يا عامر، منتصر لم يكبر بعد
لا تزال ثمه أسئلة لم تجاوبها يا رفيقي بعد، وصلوات لم نتشاركها ومعارج للروح ما علمتنيها، يوم وداعك يا عامر غاب الرفاق…
بعضهم يظهر على شاشات التلفاز والبعض يتصدر عناوين الصحف، يختلفون في كل شيء ويجتمعون على الغياب..
(الرفاق على الأوسط، وعامر وأبي على السبابة)..
الرفاق على الأوسط وعامر وأبي على السبابة.
-منتصر…..
وكفك على كتفي ليله الأمس القريب وراحتك تبسطها أعلى منضدة عليها أكواب الشاي.. تفرد سبابتك وأوسطك _
وتضم البقية تأبى أن تفلت كتفي، ترفعها لفمك تشير بلسانك حيث منبت الأصبعين :
هنا كانت البدايات يا منتصر ثم ولسبب ما تنبت للجذر الواحد ساقان : أبوك وآخرون يجلسون على السبابة، والأغلبية يسيرون على الأوسط، تتسع بينهم المسافة بمقدار قاتل، يتحدى مساءات السقيفة في منزلكم…
هناك حيث
كان الله حاضراً والوطن هم نحمله ونناجيه….
يتحدى أصل الفكرة، يقودني إلى الجنون يا ولدي.
أمي والتي صارت أقصر قامة _وكأن شيئاً ما يمضغها من أسفل _أرى التماع الدمع في عينيها يعكسه المصباح اليتيم _مثلنا _المعلق
في باحة المنزل
والصبح يتنفس وقبة السماء تفارقها زرقتها وتستحيل رماداً والشمس تولد يوماً آخر من يناير الذي لا ينتهي، أنزلنا السائق _أنا وعامر _ معتذرا _ قبل القرية بمسير طويل، وتمتم :
_الطريق من هنا لا يمكن للعربة قطعه يا أستاذ.
أخرج محفظتي.
يمسك الرجل بيدي :
_ الشاب الذي كان يرافقك أعطاني أجري يا أستاذ..
البركة فيكم، والله لولا ظرفي ما قبلتها.
حافظ
!!!!
حافظ الرقيق الحال..
نعم…
حافظ من كان معي قبل ساعات ست.
حافظ من شاركني رعدتي والرجل الذي أتى بعامر للمشفى يسب:
_لعنة الله عليه، الشيخ كان يسير بعيداً عن الطريق تماماً..لكن صاحب الكف الناقص انحرف بدراجته فجأة وصدمه، ثم ولى هارباً.
حافظ دون غيره ممن كانوا حولي يومها، حافظ الشاب الذي يقف على حافة الإسفلت التي تواجهنا، يفصلني عنه طريق وهتافات وعصي،
حافظ، وأنا، وثالثنا كان يناير الأخير…نرفع الجسد الذي أعرف، الجسد الذي لا يعرف، فيضيق يناير مابين حاجبيه، يسعل، ويبصق دما….
وأنا وعامر والمكان..
وفبراير يفتح لي ذراعيه
يظهر صبيان يقودان نعاجاً، يصرخ أحدهم، وصل دكتور عامر، يقترب الصامت ويمد يده فأردعه، يرفع وجه المبتل ويهمس:
_أنا عامر
وابن عمي ذاك أيضاً عامر، نصف قريتنا سميت عليه، أنا متوضئ يا أستاذ، لا تخف، أنا فقط أودعه.
أفلته، يمسح على رأس أبي ويقبله، ينادي عامراً الآخر ويشير شرق المكان ثم يعدو أن كل عكس اتجاه صاحبه.
لا أدري بعد كم من الوقت _ اليوم..
يُستبدل الوقت بالحزن..
المسافة بالذكرى ويناير بفبراير الجديد _
لا أدري حقاً بعد كم من الوقت…
لكنها الوجوه السمر تملأ المكان…
منحنى يناير الأخير نعمة أن أودّع أبي مرتين، منحنى عامر بوجوده دافعاً للحياة وبموته ما يكفي لردم الثقب في صدرى، ثقب ان أبي يرقد في المجهول.
وضربت بمعولي رحم الأرض بقوة، لكنه انفتح طائعاً باسماً أو هكذا خيّل لي.
وتحت الشجرة الجد..
بذرنا عامراً
قرية بأحجية واحدة..
سمعتها بنفس الرواية سبع مرات قبل أن أغادر:
_كان عامر إذا أنهى فرض العشاء، يحتقب وجوه أهله، كيس الدمورية حيث أوراقه وييمم وجهه شطر غابة السنط النائمة على خصر المكان…
يعتلي كتف الشجرة الجد، يعلق مصباح الزيت وإبريق الوضوء ويشرع في إطعام الحلم بالورق…
ترميه بيوت الطين بتمرها…
حليبها…
قمحها وحلمها ويفعلها الصبي _ يومها _
الرجال بعد صلاة الفجر يعلوو وجههم المتعبة بريق، يجتمعون..
يرتبون لعامر، كان أخطر قرار يواجه القرية وأكبر من أي شيء مر بها.
القرية كلها كانت على جانبي حائط المسجد الخارجي، الرجال والصبية في باحة المسجد، والنساء وأطفالهن على جانب الحائط الآخر وسط الطريق…
وعامر بين يدي الشيخ ينصت باحترام.
حاج أحمد كان أول المغادرين :
_خسارة تمري فيك آ ود موحمد أنا الراجيك بعيني البايظة، جاي تعملا قراية بهايم، دكتور بهايم !!!!
يا بلد ما فيك زولاً عاقل
..
هناك على بوابات الجامعة، وبالحلم المشترك نفسه، وبالقروية المعلمة على اللسان، والخطو، والخلق،
التقى عامر أبي…
أكاد أسمعهما..الرجلان (دكاترة البهايم ) أبي.. وأبي يقولان بحب كبير:
_هنا حيث البلاد السمراء تشبهنا تماماً، نحب أبقارنا وخرافنا كأطفالنا…
نطلق عليهم أسماءً، ندللها يا منتصر…
وفبراير يملأ دفئه الأرض.. أقف على جانب الإسفلت الذي يشبهني، بقلب صحيح أقطع المسافة بين حسين وحافظ.
بين أبى وإبراهيم
بين منتصر ومنتصر…
أبتسم لحافظ…
يدفعني بكتفه…
نتشارك التقطيبة نفسها التي تلت الابتسام…
_تُرى لو قدر لنا أن ننجح…
هل سنظل على جانب الإسفلت ذاته؟
أم سنعبر الطريق؟