الجمعة، 9 يناير 2015

موسى حامد

الهادي لوكس.. الراكب البوكس

موسى حامد

ليس شرطاً أنْ يكون حفل عُرس أو طهور، المهم أنْ تكون هناك حنّة ودلوكة، وبنات سمحاتْ، وأخريات يعرفن كيف يُغنين على الدلوكة. والمهم أيضاً، أنْ تتوافر لأهل المناسبة (حلّة) لا بأس بها لإعداد شاي اللبن المزبّط، وبعض الرغيفات اليابساتْ للهادي لوكس، مطرب الحي المجّاني، وصاحب الصوت الطروب، والأغنيات التي يؤلف غالباً كلماتها ويلحنها لحناً بسيطاً. أو يتدخل في تغيير وتبديل بعض مفردات الأغنيات الشائعة، ويوقع عليها بطريقته، مقحماً اسمه في الأغنية، أو اسم والدته، أو حبيبته “مشاعر سمرة”.
“الهادي لوكس”، إحدى شخصيات المجتمع المهمة في الملماتْ. وهو من الشخصيات المثيرة للبهجة والإمتاع، أواسط الثمانينيات. شخصية تجمع في تفاصيلها الكثير من الغرائب، والأسرار، وكذلك التناقضات. غير أنّ العنوان الأبرز لها هو محبة الناس، والإصرار على خلق النكتة، وإشاعة البهجة عبر الغناء، حيث كان ذا صوتٍ جميل، طروب، وببحةٍ مميزة. أو إشاعة النكتة عبر الحكي، وإطلاق النكتة الحاضرة، ومشاغبة الناس، وصنع المقالب عليهم. وحين يُناديه أحدنا بـ(الهادي لوكس)، كان يرد عليه مباشرةً (الراكب البُوكس).
أول وصوله للحفل، كان الهادي لوكس يُصدر شغباً عُرف به، يُعلن عبره وصوله، مصدّراً إزعاجاً وضجة من نوع خاص. كان يُشاغل الجميع، بدءاً بالأطفال والفتيات، وليس انتهاءً بالنساء اللائي يُشرفن على إعداد الأكل:
- هوي يا غبيانات، البامية المفروكة دي بتعمل فلايتْ، ما تكتروا منها، ركّزوا على القيما.
تلك المشاغلات المرحة، كانت كافية لإعلان وصول الهادي لوكس لبيت المناسبة. بعدها يتجه مباشرةً حيث لمّة الدلوكة، يُخاطب الفتيات بلهجةٍ آمرة:
- بالله يا بنات أيِّ واحدة ما بتعرف تغني تساعدنا بالصفقة، والما بتقدر تصفق، تساعدنا بالسمع.
ثم من بعد، يطلق لصوته العنان، غير مهتم بإيقاع الدلوكة الذي –قسراً- سيلحقه:
[عشان بريدو أديتو وردة بيضاء/ أداني وردة زادتْ عليّ الريدة/ عشان قلوبنا ما تفترق يا صيدة/ ولو افترقنا في الجنّة تاني نعيدا/ وين البلال ما جانا].
يستعين الهادي لوكس على ضبط إيقاعه بالاحتفاظ دوماً بفنجان القهوة أبْ نجوم، يحمله طوال الحفل بيده. يطرق به برفقٍ على الخاتم الكبير (أبْ فاروصة)، الذي يرتديه دوماً على يده اليسرى. يطرق على الفنجان حسب نوعية الإيقاع، خفيفاً كان أو سريعاً أو عنيفاً. لكن في بعض المرات عندما يغرق في اللحن، ويسخن إيقاع الدلوكة، يصادف أنْ ينكسر الفنجان على يده. وعليه ففي يده بعض العلامات على ذلك.
لكن في حال عدم توافر الفنجان، فهو يستعين على حفظ إيقاعه إما بالطرقعة التي يُحدثها عبر أصابع يديه الاثنتين. أو بالضرب الخفيف بمقدمتي قدميه.
بعض المتابعين من شلتنا، (شلة البهجة والسرور) كما كنَّا نسميها، كانوا يشيرون إلى علاقةٍ ما، تجمع بين الهادي لوكس، ومشاعر سمرة. علاقة تتعدى الثنائية التي كانا يقومان بها وهما يُغنيان في المناسبات العامة في الحي. لكنهما لمْ يلتفتا إلى متابعتنا وقوالاتنا عنهما، فما إنْ يحل الهادي لوكس على حفل حتى تتسلم مشاعر الدلوكة، بإيعازٍ من الهادي في البدء، ثم تطور إلى إلزام، وإلى تعوُّد في الآخر. تتسلم مشاعر الدلوكة، تطرق عليها خفيقاً لتتبين المسكة الجيدة للدلوكة، ثم ما تلبثْ أنْ تضعها في حجرها، وتمتلك زمامها فتطيعها، وتصبح طوع يديها. وهو ما أهلها لنيل شهادة الهادي لوكس، الذي يقول:
- يا بنات اتعلمّن من مشاعر، شوفنّها كيف بتخمّج الدلوكة.
ثم ينطلق في الأغنية التي يؤديها في الحفل الواحد أكثر من مرة، ربما يهيّج بها الإيقاع، أو ربما يستعطف أهل المناسبة للتعجيل بشاي اللبن:
[يا غيمة/ ضاري الشمس/ خلي العريس يقدر يمش/ يا غيمة].
ويردد المقطع كثيراً، حتى تدخل الجلسة كلها في جو الغناء، بعدها ينطلق صوته، واضعاً يديه على مكان قلبه، ومغمضاً عينيه:
[نار يا نارنا/ نار يا ناري هوي/ ناري يا نارنا/ أنا ناري أنا ناري أنا وأنا]
أما في ميدان الرابطة، حيث كان لمبارياته في الثمانينيات صيتها ومتابعتها العالية، ونجومها المعروفون؛ كان الهادي لوكس أحد نجوم الرابطة، لكن على طريقته التي تخصه. كان يُعلّق على المباراة بطريقة ساخرةٍ، تجمع من حوله الجمهور. ومستقبلاً تطوَّر الأمر إلى تحوله إلى معلّق جاد، تدفع له إدارة الرابطة بعض المال للتعليق على المباراة، لإكسابها بعض المتابعة، حيث خصصتْ له مايكروفون، وكان ذلك قبل دخول الكائن المسمى “الساوند سيستم”.
لم يكن أحد يعتبر الهادي لوكس من المجانين، فهو شخص أليف، على الرغم من كونه مفتقداً لعقله منذ وفاة والدته ووالده في حادث حركة مفاجئ، لم تحتمل حساسيته المرهفة، وقلبه الضعيف هذا الرحيل. فبدا ساهماً لأكثر من شهرين، بعد وفاتهما، وغير قادر على الحديث. حتى عندما انطلق لسانه بالحديث، انطلق بالغناء، في حفل دلوكة لأحد الجيران. ومن ديك وعيك.
عادتان صاحبتاه طوال حياته، ولم يتخلّ عنهما، على الرغم من حديث الناس إليه كثيراً، ومحاولة معالجته عبر الأطباء، والاختصاصيين النفسيين، أو الفقرا. العادتان هما: عبوره الشوارع دون وضع أيِّ اهتمام للسيارات العابرة، خاصة السفرية منها. والثانية خروجه في ليالي موجات البرد العاتية خفيفاً دون ملابس برد. فقط يجلس أمام شباك أقرب فرن، ليأخذ رغيفاً ساخناً، يأكله وهو عابر من شارعٍ إلى آخر.
أحد الأيام الحزينة في الحي، كان رحيل الهادي لوكس، الشاب الوديع، الفَكِه، وصاحب الصوت الطروب. حيث لم تنتبه له إحدى السيارات العابرة، فصدمته، ولم ينتبه سائقها إليه إلا وهو طائحٌ في الهواء. حمله لأجل الذهاب به لأقرب مستشفى، لكن روحه الرفرافة كانت قد فارقتْ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق