الخميس، 7 أبريل 2016

طلال الطيب -شعر أفريقي خشن - النص الفائز بالمركز الثاني في مسابقة الطيب صالح



شعر  أفريقي  خشن !

أنا  رجل   عادي  جدا , وليس  لهذا  معنى . أقصد  بأني  من النوع  الذي  إذا  جلس  بالقرب  منك  فلن  يثير إنتباهك  . أحمل  كيس فيه طماطم وربع جبنة وليمون  ورغيف  . 
أعمل  في وظيفة عادية  لولا أنني  أخذ مرتب  في كل شهر  فلن  يلاحظ أحد بأني أعمل  ولن ألاحظ  أنا  بأني  أعمل . 
أقصى  ما أستطيع   فعله  من حركة وتغير  في الكون  أنني أغسل  السكين وأقطع الطماطم  وأخلطها  بالجبنة  وأكل  . هل  أخبرتك  بأني  نباتي ؟ 
أنا  لست كذلك  ؛ لأني  لا أحب  اللحم  , لكن  ذات يوم إشتريت ربع كيلو  لحمة وبينما  أنا  أغسلها  وجدت قطعة  صغيرة  من الجلد  . أذكر أني  حملتها  بحذر  شديد  , شممتها   وعرفت  بأنها  قطعة  من جلد  كلب .! 
ذهبت  إلى الشارع وإقتربت  من كلب  الجيران  الطيب وهو أيضا  علم  بأني أحمل  قطعة جلد  كلب , فكشر  عن أنيابه  وأبرز مخالبه  وأخذ  يضرب الأرض   بجنون ! 
لم  يتبقى له  إلا أن يقفز على عنقي ويعضه  .فعلا هو  كلب  طيب كان يبصبص  بذيله  كلما  رأني  .! 
 لا أعرف  ما الذي  يعجبه  في  لكن  يبدو  أن  للكلاب  قدرة كبيرة على أن تحب أي  أحد ( الكلب  بريد  خناقوا  ) أتحسس عنقي كلما تذكرت هذه العبارة . 
المهم  منذ  ذلك  اليوم  أخذت  فقط  أكل  النبات وأحيانا  السمك . 
حياتي  تسير   بسلاسة , يحسدني  عليها  الكثيرون . لا أستدين  من أحد  , لا أخرج  للنادي حتى أثرثر  مع أحد  , لا أمارس  هواية  معينة . 
أحيانا  أتصل   بأمي ليس  لأني  أحتاج  لحنانها   بل  لأني  لا أريد  أن أبدو كناكر  للجميل  , في  كل  مرة  يأتي  عيد ميلادي  أتذكر بأنها  تألمت كثيرا  في  هذا  اليوم  فأشتري  لها  هدية . من السهل  أن أشتري  لها  الهدايا فأنا  أعلم  الأشياء التي  تحتاجها  والتي  تكرهها  . 
سوف  أبدو  رتيبا لو  حدثتك  عن  إمرأة  أحبها  , لا بأس  الحياة أصلا  رتيبة . ألم  تفكر   بأن  القمر   يدور  حول  الأرض  منذ  سالف العصر  والدهور , أقصد  بأن نفس القمر  رأه  فرعون  ذات يوم  في  طفولته ولعله أثار  فيه شجونا رومانسية , حتى الإكسندر العظيم  حلم  بأن  يطير إليه  بخيول  من  نار  .! أه  أقصد  بأن الرتابة صفة  وجودية . 
المهم  أنا أحب  جارتي لحسن حظي , فكلما  كان من تحب  قريبا منك  كلما  كانت حياتك أفضل لكن  ليس دائما  . هي  بنت  جامعية  لعلي أكبرها بأربع سنوات لكنها أجمل  مني  بكثير  . 
قبل  أن تغلق الحكومة إذاعة بي بي سي كنت أرقد  على سريري , أرتدي عراقي , وأضع رادي  فوق  الطاولة  وأسمعها , لا أقصد  بأني أسمع الإذاعة بل  أسمعها  هي . كانت تدرس  أطفال الحي  الحساب  والأنجليزي والعربي في حوش بيتها .
أتخيل  لو  تزوجتها سوف  تنقل  لوحها  الأسود  إلى  هنا  وتدرس أطفال الحي .
أتخيل  بأني  سوف  أطلب  منها أن تتوقف  عن  ذلك  وحينها  سوف  أبدو حقا مثل  وغد حقيقي  .
هي  ليست جميلة  جدا  , لكنها  تعجبني  فكلما  رأيتها  يخفق  قلبي  بشدة , أحيانا  يستحسن أن تتزوج  تلك  التي  كلما  رأيتها  تزداد نبضات  قلبك . 
لها  شعر  أفريقي  خشن , شعر  كثيف  جدا  . لو أطلقته سوف تبدو مثل مغنية الجاز نينا سيمون .
غير  أن لها  إبتسامة  جميلة , تغريك  بأن تعانقها  .أن تكون  معها . وهي  سمينة قليلا  ,أقصد   بانها لو وضعت قدمها  فوق  قدمك من غير  قصد  سوف تتألم كثيرا لكنك سوف  تنسى الألم عندما  تعتذر  إليك بابتسامة جذابة وصوت يشبه زفير الغابة .
بالتأكيد  غيرتني  كأني  كنت  رمادي فصبت علي كل  ما  في  الفرشاة من ألوان . 
من  السوق  العربي  إشتريت  دواوين  شعر  صغيرة نسبيا  لنزار قباني  الذي كنت أعتبره  مجرد  صعلوك ! وفهمت  أخيرا  عن ماذا  كان  هذا الوغد _ الذي له وجه  قط  عجوز  أغبر  أره في أنحاء البيت    أحيانا _  يتحدث .كان يتحدث عن النساء   بكل ألوانهن  وأشكالهن . 
وبعدها  إنتقلت  لمجلة العربي  الثقافية  وهذه  جعلتني  أقرأ  الكتب  وهي لا تزال  تدرس  الأطفال . صوتها  يكرر   I فيقول   الأطفال  :  I  
_ I,am 
يردد  الأطفال : I,am
وأنا  كل  مرة  أقول  :  I love you .
لابد  بأني  كنت مثيرا للشفقة  بالنسبة  للسماء إذا  كانت  تسمع  وأنا  أقول  هذه  العبارة للفراغ  , لا لشيء  أخر  . أنا  إعتبرت  هذا  نوع من التقدم . أحتاج  فقط  إلى الكلمات , والقراءة  سوف تساعدني على إيجادها  . 
ذات مرة  شاهدت  فيلم أمريكي  عن  شاب أسود موهوب  يحب الكتابة فيتعرف على كاتب مشهور  إختار شقته  منفى  له . هذا الكاتب  نصحه  بأن  يقدم لحبيبته هدية  مفاجئة  , فأهداها  كتابا. 
لا بأس أن  تأخذ النصائح  من الأفلام . بعد أن إنتهيت من عملي  , ذهبت إلى الدار السودانية  للكتب  مكان أصبحت أذهب  إليه  بعد  أن  تغيرت . إشتريت  رواية ميرامار  لنجيب محفوظ  . تعجبني  هذه  الرواية  فيها  شخصية زهرة وهي شخصية رائعة .
ولحسن  الحظ  صادفتها  تحاول أن تدفع  الباب لتدخل  . لم أتردد وأنا أخطوا  نحوها  بل  كنت  أشعر   بالسعادة  كلما  إقتربت  منها  , حتى دخلت إلى نطاق جاذبيتها  .عطرها  , قميصها الذهبي بتفصيل أفريقي , شعرها الذي  تربطه بقماش أزرق . حبات عرق عذبة تلمع  على جبينها  , خديها الكبيريين , شفتيها الطيبتين .
وأنت  بطبيعة  الحال  تكون  شجاعا  ما دمت سوف تعطيها  رواية أو أي شيء .
مددت إليها  الكتاب . وقلت  لها : خذيه  هدية !
وندمت أنني  تركتها  بعد كلامي  البسيط  هذا  . لم ألتفت إلا  بعد  سماعي لصوت الباب الذي  جزء منه حديد والأخر  خشب  يصدر  ذلك  الصوت المميز عندما  يفتح .
قالت لي  :  شكرا  . إستطاعت  أن تسمعها  لي  ؛ لأنها إعتادت أن تسمع من يكون  بعيدا  مثل  طفل يجلس  في أخر  مقعد  , رمت الكلمة ببراعة في قلبي كلاعبة كرة  سلة محترفة  .!
عندما  سألني  صديقي  _ نعم أصبح  لي أصدقاء  , عن  قبيلتها  .!
ضحكت  وقلت  أنا  لم أسألها  عن  قبيلتها  أبدا  . أسأل  عن  حالها , عن صحة أمها , عن صحة الأشجار التي  تسقيها , عن صحة إخوتها  الصغار  . أسألها  أحيانا . هل  تحتاجين  إلى  طباشير  ؟  عندما  تقح  . أسألها  : هل  أنت  بخير  ؟ 
أسألها  أين إختفى  ذلك  العطر , هل  نفد  ؟  طلبت منها  ذات مرة أن تعطيني  قميص  أفريقي مثل  الذي  يرتديه صاحب  قصيدة ( الله  في  هذه  البلاد  ضابط في الجيش ) أذكر  أنها إشترت  لي  واحد وقد  كانت  تبدو  شاحبة  قليلا  وبعد  ذلك  علمت  بأنها  كانت توفر من نقود فطورها لتشتريه لي .!
بعد  كل  هذا  مستحيل  أن  أهتم  بقبيلتها  أو  بعرقها  . 
في  التسعينات لم تكن هناك  هواتف  ذكية  ولا تطبيقات تتيح إرسال  الصور  . كنا أحيانا نثرثر على الحائط  طوال الليل  .لا أقصد  حائط الفيس بوك . بل  حائط  الجالوص . هي قصيرة نوعا ما , فتطلع  على  مقعد  قوائمه من الخشب  ذلك  النوع  الذي  يصنع منه العناقريب  وأنا على طوبتين  من  الطين  . ونثرثر طوال  الليل وأحيانا  نتبادل  القبل , في بعض الأحيان كانت تسمح  لي  بلمس صدرها  . ذات  مرة  رضيت  أن تأتي إلي ؛ بمعنى حاولت أن تتجاوز الحائط لنكون  معا  في  بيتنا _ نعم ليس  بيتي _  وعندما  لم تستطع  فعلت أنا  ذلك  ,على عكسي  بيتها  لم  يكن خاليا .كنت أسمع  شخير جدها  العجوز  , غمغمة إخوتها  الصغار  . لكنا تعانقنا  وتبادلنا القبلات حتى كادت أنفاسنا تنقطع .! 
أنت  تعلم  بأننا  لا نستطيع فعل  ذلك  في  حديقة  عامة أو  في  شارع النيل , لا أتخيل شرطي  يعاملها  بإزدراء أو  يجلد عجيزتها الجميلة , لا أتخيل  رؤيتها  خائفة  ذليلة  . لو  رأيت  ذلك  سوف  أقتل  نفسي . سوف أركض  إلى جسر  الإنقاذ  وأقفز  إلى النهر  من  هناك  وأنا  لا أعرف  السباحة !
أعطتني  صورة  فتوغرافية  لها  , حقا  لها  لون مختلف  عن  لوني  . أنا لوني قمحي كما  يصفه  الناس  حولي . بالنسبة  لي  ألوان البشر  اللغة  لا تستطيع  أن تصفها  , هي  ألوان من صنع الإله  لا  علاقة  لنا  بها  . هل  هي  سمراء  , هل هي  سوداء  , هل  هي  بيضاء  ؟ حقيقة  لا أعلم  لكني  أعلم  بأني  أحب  كل  شيء   فيها  . أنفها  فمها  , عينيها , حاجبيها , جبينها  .الذي  أتمنى أن أقبله . أحب  كل  شيء  . 
أخبرت  أمي   بأني  أريد  أن أتزوج  . أنا  أعرف  من هي  التي  سوف أتزوجها . نزار  قباني  يقول  :  الحب  للشجعان  أما الجبناء  فتزوجهم  أمهاتهم  . 
ذات  مرة إشتريت لحم  ضأن , وأخذت  أشويه . أخذت رائحة الشواء تنطلق في  الجو . شمها كلب الجيران  فرأيته  يبصبص بذيله , كان  يبتسم  ببلاهة . رميت إليه قطع من اللحم  , تجعلني  أطرده  من غير أن أشعر  بأني  لئيم . وفعلا أخذ يهز ذيله ويبتسم  ببلاهة   طالبا المزيد  من  اللحم  . هنا  نهضت . طردته  وكأني أهش الحمام  . وأغلقت  الباب  . 
جأت هي  تحمل  صحن  شعيرية , وجلسنا  على الأرض  نأكل , داعبت خاتم الذهب  الذي  في إصبعها فصرختُ:   يا  الله  !
 فضحكت هي . لقد  كان  ذلك  الخاتم .هو  خاتم  الخطوبة .

هناك 15 تعليقًا:

  1. طلال الطيب جميييل جدا

    ردحذف
  2. رواية بجمال هذا الوطن

    ردحذف
  3. رائعه جدا والله من كاتب جميل ومرهف ومطوع للفلم...

    ردحذف
  4. رائعه جدا والله من كاتب جميل ومرهف ومطوع للفلم...

    ردحذف