السبت، 5 سبتمبر 2009

محمد عبد الحميد

زيارتنا الى ضريح الفكي اسبينوزا
محمد عبد الحميد
في الثالث من يناير 2002، بعد ثلاثة أيام من دخول اليورو، قررت بالتشاور مع صديقي الهولندي مايكل أن أزور قبر اسبينوزا في منطقة "اودر كيرك" (التي تعنى الكنسية القديمة) جنوب غربي امستردام حيث أعيش منذ ثلاث سنوات. لا أذكر متى سمعت بإسبينوزا لأول مرة أو متى قرأت له شيئاً في اطلاعي اليسير على الفلسفة، كل ما اذكره الآن هو إنني أُعجبت به منذ وقت طويل، وعملت ما بوسعي على البحث على كل ما يعزز تقديري الشديد لإيمانه العميق بتساوي البشر ودفاعه العقلاني السديد عن فكرته وثباته الشجاع عليها وعثرت على الكثير منه.
وصلنا الى اودر كيرك مشياً على الأقدام خلال ثلاث ساعات قطعنا خلالها حوالي ستة عشر كيلومترا بمحاذاة نهر امستل الذي ينحنى خمسة انحناءات نصف دائرية في تلك المسافة القصيرة نسبياً. خيل لي ونحن نسيرعلى الثلج المتيبس فوق الاعشاب في برودة وصلت الي ستة درجات مئوية تحت الصفر، أنا القادم من رمال الصحراء المغلية، خيل لي أننا نسير في دائرة نعود فيها لحيث بدأنا كل مرة، ضحك مايكل لهذه الخاطرة التي أفصحت عنها وقال: "الأنهار الدائرية لم تُخترع بعد .. يبدو أنك تعبت"، " لم أتعب"، قلت، "لكن أصابعي توشك أن تتجمد". "أنا أيضاً"، قال لي، وأخرج من حقيبته التي لا تفارق ظهره قفازين صوفيين لبس أحدهما في يده اليسرى وناولني الآخر فلبسته في يسراي أيضا لأني أستعين باليمنى على التدخين.
ـ بقيت حوالي ثلاثة كيلومترات فقط،
قال مايكل بعد أن تأمل واحدة من الخرائط التي نادراً ما تجده لا يحمل احداها وأضاف:
- لم يكن مسموحاً بدفن اليهود في امستردام في القرن السابع عشر، كان عليهم أن ينقلوا موتاهم إلى هذه المسافة البعيدة في القوارب عبر المستنقعات والأوحال قبل أن يسلموا للراحة الأبدية.
في طريق العودة استدعيت زيارتي الأولى إلى ضريح الشيخ عبد الله في قرية فرص شمالي قريتنا دبيرة على ضفة النيل الشرقية قرب الحدود المصرية انزعجت لفكرة العودة الي نقطة ما في الماضي كلما اصطدمت بشىء جديد. لا يمكنني الفكاك من هذا العالم المنفصم وهذه المقارنة المضنية منذ أن قدمت إلى هذه البلاد، انقسم العالم بطريقة ما إلى عالمين... هنا وهناك، الى ماكان وما هو كائن، الى مكان كنت فيه وأحلم به الآن ومكان كنت أحلم به وصرت فيه الآن دون أن يرتوي ظمأي من شيء، وأحلم الآن بالذهاب أو العودة لبلاد بعيدة وانا متيقن من خيبتي فيها لن تكون أقل من خيبتي الراهنة.
بنفس هذه الطريقة عدت مساء اليوم الي ضريح الشيخ عبد الله الذي زرته برفقة أمي وجيراننا وأنا في السابعة من العمر، لم أسمع بالشيخ عبد الله قبلها ولا بعدها ولا أعرف ماذا حدث له بعد الطوفان العظيم الذي حل بأهلي بعد ذلك بعام واحد.. فقط أعرف أنني تذوقت هناك أشهي قطعة مانجو لأول مرة في حياتي وحضرت أول حولية و ليلة ذكر، لم أفهم المدائح ولم استسغها لكنني استمتعت بالليلة وظلت تراودني كحلم ولم تفارق ذاكرتي حتى اليوم وأنا في منتصف الاربعينات من العمر في هذه الليلة الباردة وانا أنتظر البص مع مايكل خارج قرية اودر كيرك.
منذ أكثر من عام وأنا أتمشى في الطبيعة خارج المدينة مرة كل شهر مع عدد من الأصدقاء الهولنديين ليوم كامل، أصبحت استمتع بهذه العادة الدخيلة علي، بالرغم من اننا لا نمشي هناك مثل هذه المسافات إلا لمقتضيات الضرورة القصوى.
في النزهة الرياضية السابقة وعقب حوار طويل عن أوربا عصر التنوير، اقترح مايكل، المختص في الفلسفة، أن نتمشى المرة القادمة إلى نواحي اودر كيرك لنختتم جولتنا بالذهاب الي مقبرة اسبينوزا ووافت بسرور.
عند احدى المنحنيات رأينا قرب ضفة النهر واحدة من حيوانات البوني مربوطة بحبل إلى وتد حديدي وقد أزال من الجليد دائرة نصف قطرها طول الحبل بحثاً عن العشب الاخضر تحتها، لا أعرف ماذا يدعى البوني بالعربية، تكاسلت عن البحث في القاموس وهو على أية حال حيوان يشبه الحصان تماماً غير أن ارتفاعه لا يتجاوز المتر. خيل لي أنه حصان ممسوخ أو قزم "بعيو" كما نقول بالعامية السودانية. رأينا أيضا سرباً من البط الأسود متعثراً على سطح النهر المتجمد كمرآة أسطورية تلمع تحت شمس الشتاء التي لا حول لها ولا قوة. ورأينا حظائر أبقار تشبه مخازن محالج القطن، لا بد انها تكتظ بعشرات الأبقار. قلت لمايكل
ـ ماذا يطعمونها في هذا الطقس البارد، قال لي:
ـ من الواضح انها لا تتضور جوعاً، لا تقلق بشأنها، يستطيع الذين حولوها الى آلات تدر مئات اللترات من اللبن يومياً أن يتدبروا أمر إطعامها.
وحكى أنه حدث قبل سنوات أن استخدم نوع من نباتات الأعلاف المعالجة وراثياً لتغذية الأبقار سبب لها اضطرابات هضمية جماعية تمثلت في غازات فظيعة وأن بعضاً من مكونات هذه الغازات كانت قابلة للاشتعال وأحدثت انفجارات مدوية في حظائر دخل اليها فلاحون حمقي بغلايينهم المشتعلة. ضحكت وصدقت مايكل، الذي غالبا ما يشير الى مصادره بدقة حتى لو روى طرفة كهذه، لكنني قلت لنفسي انها قد تكون من مبالغات أنصار البيئة الذين يشنون حملات متعصبة ولا هوادة فيها ضد كل ما هو معالج وراثياً.
حدثني مايكل بعد ذلك عن انه يعتقد أن اسبينوزا هو أنجب تلاميذ محيي الدين بن عربي وتأثيرات الصوفية اليهودية على مجمل الفكر الصوفي بما في ذلك التصوف العلماني الحديث. أسرعنا في المشي وقد بدأت ملامح القرية تتضح قليلا تتوسطها الكنيسة الضخمة بقرميد سقفها الأحمر الغامق وطرقاتها المقوسة وسألنا أحد المارة عن الطريق إلى المقبرة اليهودية وتهيأت لها بذاكرة متحفزة وحب استطلاع ورثته منذ أن خرجنا من الصف الثاني في المرحلة الأولية حاملين خارطة قريتنا بحثا عن الكنز الذي دفنه المعلم في الليلة السابقة والزيارات الأولي إلى المعالم المجاورة لقريتنا التي ترقد الآن تحت آلاف الأطنان من الطمي أسفل بحيرة النوبة.
دخلنا المقبرة من بابها الخلفي الذي يعلوه لافتة قديمة مرفوعة على عمودين مستقلين /مقبرة الجالية اليهودية البرتغالية بأمستردام/ مشينا بين صفين من القبور الأسمنتية التي ترتفع عن الارض بمقدار نصف متر تقريباً وهي جميعاً مسطحة وليس عليها شواهد عمودية كما توقعت، معظمها في الناحية التي كنا نسير فيها مغطاة بأغطية قماشية مقواة بالبلاستك لا ينفذ منها الماء، قدرت انها لحماية نقوش المقابر أما الموتى أنفسهم فسيحميهم الله. كنت أتساءل كيف سنتعرف على قبر اسبينوزا في زحام هؤلاء الموتى، فكرت في طرح السؤال بلهجة مرحة لكنني امتنعت فجأة. للمقابر، في آخر الأمر، جلالها ورهبتها حتى في مثل هذه الزيارات. صحيح إننا خرجنا للرياضة والنزهة لكنه يبدو ان نهايتها في قبر اسبينوزا أكسبها طابعاً طقسياً شبه ديني، وها نحن نقترب من فليسوف علماني عقلاني بهذه الطريقة الطقوسية كثيفة الدلالة.
في الطريق كان مايكل قد سألني: كثيراً ما أشعر بان هناك قدراً من الدين مخبأَ في مكان ما داخلي ... ماذا عنك؟
قلت له بعد صمت لم أتوصل خلاله إلى رد جيد: "ربما كنت مثلك ...، لكنني لست متديناً ولم أعد شديد الحماس لأية قضية ولم أفكر في نفسي إلا كإنسان والسلام ... علي أية حال فإنني احتمي بالعقلانية بشكل ديني أيضاً.. وأتفادى، ما أمكن، كل ما يمكن أن يمسني فيها ... أفرغ طاقاتي اللاعقلانية في الشعر والفكاهة وهما يكفيانني.
ضحك لفكرة الطاقات اللاعقلانية وتماحكنا فيها قليلا ...
وصلنا إلى فاصل خشبي قليل الارتفاع يفصل جزءً آخر من المقبرة التي تحتل حوالي ثلاثة أفدنة من الأرض، ثمة بوابة خشبية عليها لافتة صغيرة تقرأ /غير مسموح بدخول الكوهانيم/
- من هم الكوهانيم يا مايكل ؟
- لا أدري ... لكننا سندخل.. أستطيع أن افترض اننا لسنا كوهانيم
- لماذا ..؟
- مجرد حدس .. اظن اننا لا نبدو كالكوهانيم... ثم اننا لسنا اتقياء للحد الذي نطيع فيه مثل هذه الأوامر.
دخلنا إلى هذا الجزء الذي كان مخبأ وسط صف طويل من الأشجار العالية المستقيمة الجذوع التي طالما حسدت الأوربيين عليها، وهو الجزء الحديث من المقبرة كما علمت فيما بعد من الخارطة المعلقة عند البوابة الرئيسية. القبور هنا معظمها مغطاة بالرخام الاسود الفاتح ومكتوب عليها بالهولندية والعبرية او اليديشية وهى مرتفعة قليلاً عند احد الطرفين، افترضت انها جهة الرأس، لكن يبدو ان سبب الارتفاع عملي ودنيوي هو تسهيل ازالة الثلج منها. ضربت أقربها مني ضربتين بقدمي ضحك مايكل وسألني
- هل تختبر قوتها؟
- لا ... انفض الثلج عن حذائي .. اشعر بالبرد في أصابع قدمي.
وقفت عند مقبرة نعيم عزرا، خمسة أسطر بالانجليزية تقول / الزوج الوفي والأب الكريم والجد العطوف، العراق 1921 – 1975 ، هولندا 1975 – 1980/، خمس سنوات فقط في هولندا ربما لذلك كانت الكتابة على قبره بالانجليزية وليست بالهولندية لغة البلاد ولا العبرية (اليديشية) لغة اللاهوت اليهودي ولا البرتغالية لغة أصحاب المقبرة الأصليين ولا العربية التي تحدثها معظم سنى عمره، لا يهم الرب يتحدث جميع اللغات والانجليزية مفهومة لمعظم الزوار.
مضينا منه الي نصب أكبر وأكثر فخامة مكرس نصب لضحايا سنوات الاحتلال الألماني من اليهود دون تفصيلات إضافية أخرى. كان من العبث البحث في كل هذه المقابر واحدة تلو الأخرى وبدأت نذر عاصفة ثلجية تلوح في الأفق، فقررنا المغادرة بالباب الرئيسي الذي يقع على الطرف الآخر. عند منتصف الناحية الغربية، مررنا على معبد أو مكان للصلاة يتكون من غرفة كبيرة وأخرى صغيرة جداً تلاصقها. الغرفة الكبيرة معدة للصلاة بكنبات خشبية طويلة وصلدة تشبة مقاعد قطارات الدرجة الرابعة القديمة في السودان. تتدلى من سقفها شمعدانة زجاجية صغيرة نسج عليها عنكبوت جريء.
المفاجأة الكبيرة انتظرتنا قرب الباب حيث اللافتات التوضيحية الكبيرة أكبرها وأقدمها يقول / هذه المقبرة ملك للجالية الاسرائيلية البرتغالية في أمستردام افتتحت في 29 مايو 1614/ وأخرى متوسطة تقرأ /نذكر بعرفان مساهمات المؤسسات التالية في الحفاظ على هذه المقبرة، بلدية امستردام، مؤسسة الأمير برنارد الثقافية، صندوق المعاشات بشمال هولندا، جمعية حماية التراث الثقافي الخ ../ وتالثة أصغر قليلاً وأكثر أهمية تنص بخط أصغر على/ هذه المقبرة مشهورة على نطاق العالم بنقوشها الجميلة على الرخام وتضم رفات العديد من المشاهير منهم سفراء العائلتين المالكتين في السويد وتركيا، وأطباء و أصدقاء الرسام المعروف رامبرانت وأخيراً وليس آخراً والدَي الفيلسوف المشهور باروخ اسبينوزا/
اكمل مايك ترجمة اللافتة من الهولندية الي الانجليزية ... اشعل سيجارة وقال بابتسامة خفيفة
- اذن اسبينوزا ليس مدفونا هنا ... هنا رفات والديه فقط
لم أجد ما أقول شعرت بدهشة ومفارقة، بدا لي أن مايكل شعر بخيبة أمل ما، قلت
- استمتعنا بجولتنا على طول النهر ودخلنا إلي المقبرة كمعلم ثقافي كما أراد له الذين يشرفون عليه، ماذا كان سيتغير اذا كان مدفونا هنا ...
- كان علينا ان ندرك ذلك من البداية
- ندرك ماذا
- انه من غير المعقول ان يدفن هنا
- لماذا ؟
- لقد طرد من الكنيسة اليهودية بتهمة الهرطقة لارائه ... أعتقد انه مات مطرودا من الديانة
- يالها من مفارقة الهاربون من الاضطهاد الديني في البرتغال الي هولندا يضطهدون واحداً من أميز فلاسفة التسامح من أبناء جلدتهم.
مضينا الي محطة الباص صامتين ... باروخ اسبينوزا رددت الاسم في سري عدة مرات ... رن جرس داخلي .. الاسم الأول... باروخ ... نفس اسم الشخص الذي قتل عشرات المصلين في المسجد الاقصى قبل سنوات قليلة ... ترى هل سماه أبوه تيمنا بنبي التسامح اسبينوزا .. تذكرت ان أحد أعز أصدقائي أيضا يسمى أسامة.
وصل البص.

عمر التجاني

اللميــــن (1)
عمر التجاني
كانت حكايته أشبه بأسطورة، يتلوها كاهن عجوز من كتاب أصفر، اللمين ذلك الذي حتى مجيئه لبلدتنا كان محض صدفةٍ، فأعاد الحضور إليها مرات ومرات أُخرْ، فاضحى دائم الزيارات. ما الذي أعجبه في بلدتنا. وهي كواحدةٍ من مدن البلد الواسع اللائي يحتضرن تحت سنابك أسراب البعوض، وإنعدام الخدمات، وأحياناً كثيرة إنفراط الأمن. فلندع هذا الشجن الآني الآن ولنعد لحكاية صاحبنا اللمين. وسأروي لكم مقدما، كيف وصل اللمين الي بلدتنا القابعة بين الصحراء والنهر الخالد، يحدها شرقاً بيان سيدي الحسن (بيان ليس بيان الجماعة إياهم حتى لا تختلط المور ونبقى في التلتلة، خاصة ًوأن واحداً من أحفاد سيدي الحسن مغضوب عليه عند البعض) المهم ماعلينا نرجع لحكايتنا. ويحدُّ بربر غرباً النهر الخالد، وبينهما المزارع والحقول، التي نسميها نحن في بربر الجزيرة حتى أن نادي معينيفة أحد أحياء بربر سمي تيمناً بالجزيرة لأن حيّ معينيفة مجاور لتلك الجزيرة. وصاحبنا اللمين، من بلدة عاجةٍ بخلق الله، كنا نسمع عنها أنها مدينة الجمال ببلدنا. أما مدينة الجِمال، والأبل، فهي ريرة، كما كنّا نقرأ بمدرسة الكُتّاب. وتلك قصة قديمة أيام الله لي كوريا من شباب العليا، فقد كانت المشاعر ملتهبة إبان الحرب الكورية، تأييداً للشعب الكورى. أخبرني صلاح خوجلي، رغم أن جلبابه كان متسخاً، بأن أحد أحياء بورسودان أُطلق عليه كوريا، كذلك سمي الفصل الأول بمدرسة بربر الشمالية أولى كوريا عظمة والله.
كنت مرة مع صديقي عبد الحميد ودّ اب عمرة في عربته البوكس التايوتا، والتي ما فتئت تنقل الخلق بدون مقابل، ونحن في عزّ الضهر، والبلد دي صنّ. الصنّة ديك الما معاها حس ولا حركة، والدنيا حر يفلق الحجر. مو حر مؤمن يمرق فيه، كمان جايبا ليها سموم أسكت خليها ساكت. المهم يازول ما أطول عليكم نشوف لينا زولا غريب. فنحن نعرف كل أهل البلد. والزول الغريب ظاهر، نشوف الزول يضّارَى من ضُلّ لي ضُلّ، حاير به الدليل. فوقف ودّ أب عمرة امامه وسلّم عليه فردّ الرجل التحية كما ينبغي، فسأله ودّ اب عمرة:
ـ أها ياودّ العم علي وين إن الله هون في الحر ده؟
فكان رده:
ـ انا أصلاً جيت البلد دي كايس لي دواء ولقيت الأجزخانة مقفله.
ـ حليل أيام زمان بلدنا أكان فيها اجزخانه الدوا في وزارة الصحة ما في مان تلقى فيها، والناس أكانوا يجوها من (بلدن) بعيد.
فقال له ودّ اب عمرة:
ـ فعلا اسع تيه الأجزخانه قفلت، بتفتح بالمسا، فأسع يا اخينا أرواح علي البيوت، ترتاح شوية .....
فقاطعه الرجل، محاولاً الإعتذار والتنصل، بحجة إنه مشكلة ما في:
ـ بنتظر هنا في قهوة ولّلا مطعم لغاية ما المواعيد تجي شكرا ليكم كتير.
فردّ ودّ أب عمرة بحدة:
ـ شكرا شنو ومطعم شنو ما تخليني أكمل كلامي، أنا ذاتي صاحب مطعم. اسع تيه لا في مطعم فاتح ولا قهوة، هنا الناس بتروح تقيّل ديل شغالين بحكاية قيّلوا الشيطان ما بيقيّل. دحين يا أخينا سيب اللكلكة ويلا، ما تنتظر هنا ولا حاجة الدنيا إنقلبت؟ هيّا عليك الله.
وعندما أحسست أن الرجل ما زال متردداً قلت له بسرعةٍ وحزم:
ـ علي الطلاق أكان تركب، حرّم ما تقول حاجة.
وفتحت باب البوكس، فدلف الرجل الي داخل العربه. وفي البيت وضعنا للرجل (عنقريب) في ضلّ العصر، فإذا به يستغرق في سباتٍ عميقٍ، ورغم حرارة الطقس كان له شهيقاّ وزفيراً عاليين.
وعند العصرية ذهبنا لنتفرج على تمرين نادي الأمير، كنت الْحَظُ أن الرجل كان غير مكترثٍ بما يجري حوله، ويبدو أنه مشغول بأمرٍ آخر. وبعد التمرين ذهب ثلاثتنا الي الأجزخانه ، لشراء الدواء، قال لنا الصيدلي:
ـ الدوا ده اسع ما موجود شالوه ناس الصحة يفحصوه لأنهم كل مدة بي يجو يشيلوا الأدوية يفحصوها ومطابقتها للمواصفات وتاريخ صلاحيتها وهلم جرى ـ حليل أيام زمان ـ بكرة الصبح تجي تلقى الدوا جاهز .فأحسست بأن الرجل تضايق كثيراً فقلت له.
ـ إنت عارف أسع تية أصله ما في مواصلات لي أتبرة يا أخي ما عليك تبيت هنا وبكره تشيل دواك وتتوكل .
فقال لي:
ـ لا ما ممكن، أصلاً أنا كنت ناوي آخد تكس، واجي الصّباح. والله عربيتي واقفه في أتبرة، شاحنة، والمساعد حق العشا ماخليته ليه، وفي هذه اللحظة عرفنا أنه سائق لشاحنة، فنحن لم نسأله من قبل عن عمله ولا حتى عن إسمه، ورد عبد الحميد كالعادة بحدة:
ـ يااخينا تكس شنو أكان للتكس عربيتي دي بي توصلك لكن التلتله لزومه شنو.
ولم أدع عبد الحميد يواصل بلهجته تلك، وقررت حسم الموضوع بالصورة التي تناسب ذلك الرجل:
ـ اسمع يا ودّ العم عليّ الطلاق بالتلاتة ما تقول حاجة تنوم وبكرة تتوكل، مساعدك حيتصرف ما حيموت بالجوع.
توجهنا بعد ذلك الي مقهى ود اب خف وأضطررنا للجلوس داخل المقهى مع ودّ أب خفّ محل النيران ما مولعة والحر يفسخ والشاي ذاتو مولع نار، وعذراً سادتي فتلك لحظات لم تزل في ذاكرتي أضحت زاداً في سنين إغترابٍ بليد لا أعرف له نهاية معذرة سادتي مرة أخرى. ولكن كان لشاي ودّ أب خفّ مذاق يجعل تلك العذابات تتضاءل أمامه. فعرجنا بعدها إلي نادي الأمير. وفي طريقنا للنادي نمر بطابونة ابشر عجيب ودكانه ودكان صديق، حيث تصادف نفس الأشخاص، ونفس المسرح ونفس العبارات على مر السنين، ونحن أمام الدكان يمر محمود وهو ثمل بدرجة أقل حدة من علي الذي سيأتي آخر الليل وهو يردد بأعلى صوته:
ـ أزاي الليلة وبراي الليلة الحِرِقْ بي نار الكمائن ديله.
فيقف أمام الفرن ويصيح:
ـ هوي .. يالفرانة .. ادوني عيشة الناكلها أنا جيعان.
فيرد علية يسين من الداخل:
ـ العيش لصه عجين تعال الصاعة صبعة نديك عيشتين.
ـ سمح انا بجي باكر الصاعة صبعة ـ مقلدا صوت ياسين ـ انتو قايلني بنوم قسما جزما انا باكر إلا أجي.
عشر سنوات أو تزيد وهو يحنث بقسمه. ما علينا نرجع لحكاية اللمين. ونحن بدار النادي تفقدت عبد الحميد فوجدته قد غادر المكان فعرفت لماذا خرج فأنا اعرف عبد الحميد جيداً. وبعد قليل شاهدت عبد الحميد واقفاً بدار النادي وهو يتحدث مع شخص آخر بالخارج عرفت من صوته أنه كمال قسم الله الذي لا يحب الأندية وخاصةً نادي الأمير. فطلب عبد الحميد بإشارة منه راجياً منا الخروج. ولاحظ ذلك صلاح عوض الذي لا يشارك في تلك الملمات، وصاح بصوت عالٍ:
ـ الليلة رابِّـنها.
رد عليه ود أب عمرة بصوت خفيض (الله يرب .....) وتفوه كعادته بلفظٍ لا يجوز البوح به في هذا المقام، ولكن لو حدث أن رفعت الحرج وقلته لكم فستضحكون كما فعل عمر طلب الذي إسترق السمع وضحك بصوت عالٍ، أولاً نكاية بصلاح، ثانياً هو معجبٌ بأسلوب ودّ ابّ عمرة في السخرية. المهم ماعلينا نرجع تاني لحكاية اللمين، ويا جماعة ما أدسّ عليكم، ما في داعي للمدسّة. عندما خرج عبد الحميد، ذهب بحثاً عن (البتاع) ليحلو الأنس ويخرج صوت أجش آخر الليل ليالي الأنس لزاز بلحيل ورجوع السّاحة الخاتية رحيل. وعندما خرج جمعنا من النادى
ـ حمنمشي ديوان عمي، في جماعة منتطرين هناك.
كان في الإنتظار رهط من الأصدقاء كانت تلك الفئة تلتقي بمناسبةٍ ودون مناسبة فضل الله يتحدث عن الرهافه في اشعار ودّ المكي، والعمق عند سند. أما حسن عبد الحميد فكان دائب الحديث عن الطبقة العاملة والتحول الديمقراطي، وسعد عليه حكاية النكات، أما ودّ أبّ عمره فكانت أدواره ثلاثة أن يقوم يتجهيز المكان والمعدات اللازمة، والثانية أن يقوم بالتعليق على كل نكتةٍ بأنها بايخة والثالته هي أن يروي أكثر النكات بياخةً، ويضحك عليها الجميع من بياختها.
حتى تلك اللحظة كان صاحبنا اللمين يبدو عليه الوقار والسكينه. وفجأة دخل أبو عبيدة قادماً من القدواب مدعياً أنه جاء يبحث عن حامد، الذي علم أنه وصل الي أتبرة ولابد أنه وصل الي بربر، أو هو في الطريق اليها، وأن لديه أمراً هاماً يستوجب عليه أن يقابله، ولست على يقين أن كانت تلك حقيقة أم أنها مجرد زريعة ليجد مكاناً له في تلك اللمة.
دار الحديث أشتاتا، وكان هادئاً ممتعاً وعذباً، عندما يقرأ فضل الله أشعار ودّ المكي، وعلي قاسم، وسند، بصوته الإذاعي. وفي تلك الأثناء يكون عمر الفاروق قد ذهب بعيداً.. بعيدا ..وعندما يتقدم الليل الذي مازال طفلا يحبو، وتنتهي حالة الصّفو كما يحلو لأستاذ حمزة أن يسميها، يصمت فضل الله ليعلو صوت ودّ أبّ عمرة، بنكاته التي لا تُضّحِكُ أحدّاً سواي، مجاملة له فهو صديقي. وحينما يعجُّ المكان بالضحك فلا بدّ أن سعد تذكر نكتة.
نظرت الي صاحبنا اللمين فوجدته أصمت ما يكون الصمت، ويبدو أن كلمات فضل الله لا تسره، رغم أنها لا تفرح القلب فحسب بل أكثر ما تكون إمتاعاً. بالطّبع إن كان هذا دأب حديث فضل الله المرهف فكيف بكلام حسن عن الديالكتيك وكفاح الطبقة العاملة وهكذا، فهي ليست من إهتمامات صاحبنا اللمين البتة، لذا ظلّ صامتاً.
يبدو أن أبا عبيدة أحسّ بأن الرجل يحتاج لرفيق يتحدث اليه، أو هكذا خيّل إليّ، أو أن أبا عبيدة لا يحشر أنفه في تلك المناقشات والمشاحنات، إذ أن بعضاً من الجمع كانوا من معلميه بدور العلم. فتحول من مقعده، ليجلس بالقرب من صاحبنا اللمين. وقد بادره بالسؤال:
ـ أها يالضيف إنت من وين في اللهل؟
أجاب الضيف وهو الأسم الذي أطلق عليه في اليوم الأول لمجيئه والي يومنا هذا (وأيضاً كذلك إلى ما بعد) ناس عبد الحميد معاهم ضيف. تلك هي البداية، وليس الحدث مجئ الضيوف ولكن يجب أن يكون هناك ضيف ليحتفى به. تبدأ الأسئلة وتنتهي، لتؤكد أن هناك ضيف. الضيف وين؟ الضيف مشى القدواب. الضيف عدى الغرب. الضيف إتغدى مع حامد. وهكذا يتوارى الأسم الحقيقي ليبقى رمزاً لحدث يجب التنبه له والإحتفاء به. فإذا ماترك لإسمه الحقيقي ساعتها يضحي الأمر طبيعيا ًوعادياً ،فتعود الرتابة والصّنة.
أجاب الضيف:
ـ أنا من مدني الجزيرة، جبيت البلد دي كايس لي دوا، بكره الصبح بشيله وإتوكل، بلدكن دي تزهج المابزهج.
ـ إنت بلدنا اسع شفته فيها شنو، كدي يوم باكر ده قضّيه معانا، بعد بعد باكر إن الله هون سافر.
ـ لا و الله، انا عربيتي خليتها في أتبرة والمساعد، والله حتى حق العشا ما خليته ليه، قايل نفسي برجع في نفس اليوم، لكن الجماعة حلفوا علي إلا أِبيْت.
صمت أبو عبيدة لحظة، إذ أن الحديث يعتبر منتهيا ًفي تلك النقطة، وللمواصلة يجب أن يكون هنالك موضوعاً جديداً، أو آخر، وهذا مافعله أبو عبيدة.
ـ إنت سايق في الخط ده ولا جيت عابر؟
ـ لا أبدا .. أنا أصلاً شغال مدني القضارف بورسودان. جابني البلد دي الدوا، واحد إتسلّط علي قال لي الدوا ده ما بتلقاهو إلا في بربر، وفعلاً، حكمة الله في الخرطوم ما لقيته، لقيته في بربر، والله دوا للوالدة، كان ماكده والله ما أجري وراهو.
وصمت الضيف لحظةً وتابع حديثه:
ـ زمان أنا كنت شغال في الجنوب بسافر لغاية ليوبولدفيل، وبرازافيل*، وتنجانيقا* وبرازافيل* وسنترال دافريك*.حليل أيام زمان.
كل ذلك الحديث كان يدور بين أبي عبيدة والضيف دون أن يحسّ به الآخرون. وبعد برهة لمحت أبا عبيدة، فوجدته مصغياً ومنتبهاً بدرجةٍ عاليةٍ من الإنتباه. لم أكترث إذ شغلت عنه كما بقية الخلق الي حوار يدور بين علي الذي ما انفك يبرح آلته الموسيقية، محاولاً أن يجعل الناس أكثر إنصاتاً ًلما يقوم به من لعب ليشرح لهم الي أي مدى أنه أجاد وفهم فهما دقيقاً كيف يؤدي فنانه المفضّل زيدان ببراعة تامة أغنياته التي لا يفهمها إلا أقلة من الناس. الجمع يستمع لذلك الحوار الحاد، عالي النبرة بين علي من جهة، وبين أستاذ حسن عبد الحميد من جهة ثانية، وبينما نحن في ذاك الحال، إذا بأبي عبيدة، وعلى غير عادة منه ،يضحك بصوت عالٍ جداً، بلّ واضاف بصوتٍ يطغى علي كل ذلك الهرج.
ـ عليكم النبي أسمعوا الحكاية دي.
شدّ الخلق إنتباههم وأنظارهم نحو الضيف. وبذات النبرة أضاف أبو عبيدة:
ـ عليك النبي يالضيف، من الأول احكيها.
فنظر الضيف الي الجمع، ليتأكد من أن الجميع مصغٍ له، فإعتدل في جلسته، وبدأ يسرد في الحكاية، أي حكاية إنها بداية حكاينتا مع الضيف..
ومن وقتها صارت عبارة. قالوا الضيف قال هي الأكثر تداولاً بين الخلق. وصار الناس ينسجون الأقاصيص والحكايا على منواله، ويرون عنه روايت لم يفه بها البته. حتى أنه مرة قال عبده الذي يجيد وصف الأشياء والناس والصور بصورة جدّ مزهلة. حيث وصف مرة عمتي بت علّج وهي إمرأة مرهفة السمع، وصفها بأنها تسمع الشريط بلا يختوه في المسجل. قال عبده.
ـ قالوا الضيف قال آس الكوشتينة في جوبا فيه نقطتين.
كان الضيف دائب الحديث عن الجنوب وخاصة جوبا. والمشهود له أنه كان يعرف الجنوب، والدول المجاورة له معرفة تامةً. غير أنه كان يضفي عليها من واسع خياله رواياتٍ أختلط فيها الكثير من الخيال مع قليل من الحقيقة، فتضحي غير صادقةٍ وغير مصدّقةٍ، كحكايته الأولى، والتي ما أن إنتهى من سردها، لزم الجمع الصّمت، وكادوا يرجمونه حجارة من سجيل، أو شواظ من نارٍ ونحاس ٍولكنهم تذكروا أنه الضبف وإذا ما ذهب الضيف ذهبت المناسبة. هذا سبب، وسبب آخر هو أن طريقة سرد الضيف لحكايته فتحت آفاقاً لجبا، في طرائق صنع الحكايا، ونسجها وسردها وجذب الانتباه. رغم انه مشهودٌ لنا نحن ناس بربر بطول الباع في ذلك الضرب من المقالات، إلا أنه بذّنا جميعاً، الي أن تداركنا الموقف وجاءنا التجاني من الأبيض، فأخبرته بحكاية الضيف فقال لي:
ـ أنا بقدر عليه، بس لمان يجي كلموني.
:ـ نكلمك شنو ده البلد كلها بي تسمع بي خبر جيته.
الجميع كان يدرك أنها حكاياتٍ غريبةٍ، ولكنها مهمة جداً لقطع الوقت، ورغم إنها أحياناً تكون مملةً وتستخف بالعقل، وأن راويها يسردها وبإعتقادٍ جازم بأنه يقول ما يجب أن يصدّق، وهذا شرُّ ما فيها. ورغم كل هذا، والحقُّ يُقال أنها كانت ممتعة لسعة الخيال فيها.
جاء الضيف كعادته محدثاً جلبةّ وضجيجاً لا حصر لهما. إذ ربط لعربته الشاحنة بوري مميز، تسمع صوته وهو داخل للبلدة في الشُّرام ماراً بشارع الدكة الوسطاني ثم بالحبّالة، والمينيدرة، وإذا ما أطلّ على السّوق سمعت همساً يدور:
ـ البلد دخلها بلا. ودارت ثلاث أيام بغضّها وغضيضها، وهمّ الضيف بمغادرة البلدة الي عمله، ووهو واقفٌ على الأرض في إنتظار أن يتم المساعد عمله، أهم حاجة نضافة القزاز القدامي، والقربة تكون مليانه موية، وموية العربية تكون تامة في تلك اللحظة جاء حامد حاملا كرتونة زاد قائلا للضيف:
ـ شارع بورسودان أنا بعرفه كويس، دحين الوصية بالمهله، دي زوادتك، وبعدين ....
ـ يااخي مكلف نفسك مالك. حرّم ما بشيلة من هنا.
فرد حامد بحزم:
ـ حرّم أكان تشيله، داير تمشي تقول ناس بربر سفروني بال زواده.
فصمت الضيف ورفعها المساعد فوق الصندوق.
ـ قال المساعد يلا يا معلم كله تمام.
ـ أها ياجماعة نتوكل. نمشي ونجي بالسلامة نلقاكم سالمين.
وأعتلى عربته وأدر محركها، وصمت ليقرأ التعاويز التي تمنع العارض بالطريق. وفي تلك اللحظة ظهر التجاني قائلاً:
ـ الضيف مسافر ولا شنو، تمشي وتجي راجع بالسلامة والله يعدل طريقك، لكن داير أقولك قصة صغيرة.
تعرف يالضيف أنا ومعاي معتصم ودّ عمي شيبو مرة كنا مسافرين الأبيض بي طريق بارة أم درمان، نحن راكبين فوق اللوري ورا، يقوم اللوري يميل شديد لامن قرب للواطة قام معتصم ودّ شبيو كتب تذكار من معتصم ودّ شيبو ولمان الدور وصلني كتبت بعده وأيضاً من أخيه التجاني. وبعد تلاتة يوم يجي سيف الإسلام ومعاهو صلاح خوجلي الزول الجلابيته وسخانة مليانه ملاح قرع، راكبين لوري ماشين الأبيض، اللوري في نفس الحتة ميل شديد لامن قرّب للواطة يقوم سيف الإسلام يقرا الكتابة الكتبناها نحن، وقام كتب بعدها وكمان من سيف الإسلام واخيه صلاح خوجلي.
يبدو أن اللمين فهم المغزى تماماً من الحكاية. فأدرك ماوراء الأكمة، ثم قال:
ـ عاد النقول لك يالتجاني أنا علي الطلاق من بيتي، بكضب لي خمس وتلاتين سنة جنس دي ما خطرت في بالي. وتاني حرّم يا كراعي ما تجي بربر. اها ودعناكم الله. وكانت آخر جملة قالها، وأول جملة يقولها صادقاً. وأدار محرك عربته وغادر. ولم نعد نسمع بأخباره مطلقاً ولكنا دوماً نذكره بأنه رجل فائق المقدرة في صناعة القصة، فنذكر قصصه، والتي سأروي لكم منها ما أحسست بأنه أقلّ الأنواع وزناً، وأخّفها ظلاً، وأكثرها قابلية للتصديق. وسأبدأ معكم من أول حكاية فتحت لنا آفاقه الرحبة.

عدنان زاهر

وجوه (تأبى) أن تبارح الذاكرة من قتل أقاي لوال لوال؟!
عدنان زاهر
كان ذكيا ونبيلا بشكل استثنائي، لكن الخاصية المدهشة اللافتة للنظر والتي تميزه عن غيره هي قدرته الخارقة على معرفة الأمكنة، الأحياء والشوارع في العاصمة المثلثة – رغم حداثة عهده بالمدينة – وذاكرته (الكمبيوترية) في استرجاع العناوين والأحداث وتفاصيل الناس الذين مروا به.
كثيرا كنت أفكر من أين واتته تلك القدرات الفذة، هل هي مكتسبة ونتاج لطبيعة الحياة في تلك المنطقة البكر التي نشأ بها والتي تنتبه لتنمية مهارات الملاحظة والذاكرة؟ ام هي قدرات طبيعية يختص بها وحده؟!
ذكر لي (أقاي) أن ذلك قد حدث في أوائل تسعينات القرن الماضي، والبص المنطلق من أقاصي (الحاج يوسف) والمتجه اٍلى الخرطوم يمتلئ ببشر تختلف وجوههم، سحناتهم، مناطقهم والأسباب التي دفعتهم للهجرة اٍلى العاصمة. (انبعج) البص من كثرة الراكبين بشكل (قردي) في داخله، على الأبواب والنوافذ والمسطحين فوق سقفه. تلك الكتل البشرية جعلت البص يسير ببطء و(يتلكأ) وهو متجها نحو قلب العاصمة. شمس أبريل المكفهرة و(أبو فرار) المتربص والمتواطئ مع جهنمية الطقس أيقظت التوتر الكامن أصلاً في ذلك الجمع. انهالت الشتائم والتعليقات البذيئة متدفقة من جهات البص المختلفة. كان أقاي يقف في مؤخرة البص وشقيقه الأصغر في مقدمته. سمع صوت شقيقه الأصغر يجادل ومن ثم صياحا وسبابا موجها ومقصودا به شقيقه. بصعوبة وقتالية استطاع أن يشق طريقا (صراطيا) – يسد تلقائيا – كلما تقدم أقاي نحو مقدمة البص. شاهد شخصاً طويلاً وضخماً بشوارب كثة و متهدلة، يوجه سباباً مقذعاً لأخيه الأصغر (المنبهط) والعاجز عن الرد بطلاقة لضعف لغته العربية. حاول أقاي بلكنته أن يفهم أسباب الشجار المشتعل بين ذلك الشخص وشقيقه. عرف أن شقيقه وبشكل غير مقصود قد وطأ قدم ذلك الرجل، ورغم اعتذار شقيقه وعادية ذلك الحدث في ذلك البص الفائض بشراً اٍلا أن ذلك الشخص المتغطرس رفض الاٍعتذار بعدوانية وأصر على اٍذلال شقيقه واهانته أمام ذلك الجمع.
سألت أقاي دون أن أقصد ولعل مرد ذلك السؤال طبيعة المهنة التي أمارسها (هل كان ذلك الشخص مخموراً؟). رد بأنه لم يكن مخموراً وأضاف بأنه لم يكن حتى معتوهاً. قال أقاي دون أن أعي ومن دون سبب وجيه – وأنا أتحدث معه محاولاً تهدئته – استل الرجل سكيناً كانت معلقة فوق ذراعه الأيسر وقام باٍدخالها في بطني. عندها كشف قميصه المشجر والمشكل بألوان قوس قزح اٍلى أعلى، شاهدت آثار خياطة الجرح تمتد من أعلى صدره قرب العنق حتى أسفل البطن. كان ذلك الجرح عملاً لجزار يتقن الصنعة ويعرف أين يوجه مديته. في ذلك الوقت كان البص قد وصل اٍلى نهاية رحلته المحددة وهي المحطة الوسطى الخرطوم بجوار ميدان الأمم المتحدة.
هرب بعض الركاب المذعورين من رؤية الدماء المتناثرة على الوجوه، لكن سائق البص الشجاع توجه اٍلى الرجل ضخم الجثة وأخذ منه السكين دون أدنى مقاومة بل أن ذلك الشخص سلمه السكين ببرود كأنه كان يذبح كبشاً. أقفل السائق أبواب البص واتجه به نحو المديرية (القسم الشمالي حالياً).
قال أقاي كنت طيلة ذلك الوقت أحمل أمعائي وبقية أعضائي الدقيقة بيدي وأضغط عليهما ليظلا داخل البطن، وشقيقي بدموعه المتجمدة في عينيه ينظر اٍلي هلعاً. عندما وصل البص الشمالي اندهش كل من كان في ذلك القسم لبشاعة المشهد. طلب مساعد الشرطة المناوب والمفزوع وبهيستيريا (اٍبرة وخيط)، ثم خاط بطني بعد أن أعاد ما كان بارزا منها اٍلى الداخل. كنت طيلة الوقت أنظر اٍلى ما يحدث لى وحولي دون أن أفهم شيئا . في ذلك اليوم كنت أنوي وشقيقي الأصغر أن نزور أقرباءً لنا في (جبل أولياء) علمنا مؤخراً بوجودهم هنالك. لم أكن أتصور أن يحدث كل ذلك. أجري تحقيقاً غير مطول معي خوفاً من وفاتي وانعدام الأدلة ومن ثم تم أخذي اٍلى مستشفى الخرطوم. قاموا باٍجراء عملية كبيرة ودقيقة ومكثت في تلك المستشفى زهاء الأربعة أشهر. بعدها لازمت المنزل لمدة عام وكان شقيقي الأصغر يقوم باٍعالتي من مهن هامشية بالكاد عائدها يسد الرمق وايجارالغرفة الصغيرة. كما ترى صار جسدي هزيلاً بعد أن كنت متماسك البنية وقويا.
ذلك المجرم الذي اعتدى على أقاي حكم عليه (بستة أشهر!). عندما سألته وهو يكمل حكايته ألم يكن بصحبتك محامي عند نظر القضية؟ أجابني بأنه كان لا يملك نقوداً لتوكيل محامي. ذكر كنا نأتي اٍلى المحكمة أنا وشقيقي الأصغر الذي لا يفهم كثيراً في اللغة العربية و نتابع ما يجري في قاعة المحكمة كاحدى الأفلام البوليسية. الشخص الذي قام بطعني كان يأتي اٍلى المحكمة بفخامة ومعه عدد معتبر من المحامين. كانت القاعة عادة تضيق بأهله ومعارفه المشفقين عليه. أقاي كان يعمل معي في المكتب كمراسلة بالنهار ومن ثم يذهب اٍلى مدرسة بالقرب من سكنه بالليل. لقدراته المتطورة وتفانيه في عمله، أوكلت اٍليه مهام يقوم بها في العادة كاتب مؤهل لصيق بالمهنة. أصبح يقوم بايداع العرائض البسيطة في سجلات المحكمة، اٍيصال خطابات الاٍنذار، توصيل الاٍعلانات للمتقاضين والاٍتصال بمكاتب المحامين المختلفة على امتداد العاصمة. أصبح أقاي معروفاً ومحترماً من قبل كل المتقاضين والمتعاملين مع المكتب. توثقت علاقته بأسرتي المتددة، أصبح يزورهم في أيام العطلات ، يتناول معهم الطعام ويقضي الساعات الطوال راوياً لهم عن جمال قريته وطيبة أهله وعودته الوشيكة اٍليها بعد أن جمع مبلغاً من المال. كما كان يحكي عن نيته في الزواج من احدى حسناوات قبيلته التي تعلق قلبه بها منذ الطفولة. عندما سألته متى وقع ذلك الحدث ذكر لي أنه قد وقع قبل خمس أعوام وكنا وقتها في العام 1998.
لاحظت أن أقاي لم يكن يسرف في تناول الطعام ويتناول أصناف مختارة من المأكولات، كما كان بطئ الحركة وعرفت منه أن ذلك نتيجة لتلك الاٍصابة.
حول محل اٍقامته من (الحاج يوسف) الى (الكلاكلة القبة) وهو يقول أن السبب في تغيير محل سكنه وجود عدد من الأقارب والأهل في ذلك المكان الجديد. كان ينتابني بعض القلق على صحة أقاي المتدهورة بصورة مستمرة رغم تظاهره بالنشاط.
فجأة تغيب أقاي عن العمل لمدة يومين دون الاٍتصال بالمكتب لتوضيح السبب وكان ذلك على غير عادته. تناقشنا و الزملاء عن تغيبه غير العادي وقررنا أن نقوم بزيارته في محل اٍقامته في نهاية يوم العمل الثالث.
في نهار اليوم التالي الذي اتفقنا أن نذهب فيه لزيارة أقاي حضر اٍلى مكتبي أحد أقاربه وذكر أن أقاي قد توفى صباح اليوم السابق بميلاريا أصيب بها لمدة يومين ودفن في نفس صباح ذلك اليوم الذي توفي فيه. خيم حزن عميق على مكتبنا أياماً طوال، كما فجع للخبر كل من كان يعرفه. بحثت طويلاً لأهتدى لأحد من أهله ولكني فشلت. علمت أن شقيقه الأصغر قد غادر الخرطوم قبل وفاته لجهة غير معلومة.
بعض مضي فترة من الزمن على رحيل أقاي - وعندما كنت أقوم بتنظيم المخزن الخاص بالمكتب – وجدت حقيبة أقاي المدرسية معلقة بمشبك على الحائط. أخرجت الحقيبة المتآكلة وبعد تردد قمت بفتحها. وجدت بداخلها كتاب قواعد باللغة الاٍنجليزية، كتاب مبسط لتعليم اللغة العربية نطقاً وكتابة، قلم (بج)، علبة صغيرة بها بقايا (صعود) فاقداً للون وقصاصات ورق بها رسوم لفتيات بملابس أفريقية.
صورة أقاي الودودة والوديعة تأتي الي مخيلتي بين فترة وأخرى، ودوماً أتساءل حائراً بعد مرورها الدوري من قتل أقاي لوال لوال ؟!
هل هو مرض الميلاريا الذي عم العاصمة وقضى على عدد معتبر من ساكنيها في ذلك العام؟! أم الحرب المهلكة في الجنوب التي قذفت به من قريته النائية والحالمة اٍلى المدينة الخانقة؟! أم ذلك الرجل الفظ ضخم الجثة ذو الشوارب المتهدلة الذي قام ببقر بطنه دون أن ترمش له عين وفي وضح النهار؟!!
28 يناير 20

عثمان حامد

بيننا الإنتظار والندى
عثمان حامد
"إليها. وقد إنتبذتْ لنفسها مكاناً قصيّـاً في القلب."
الرابعة إلا الربع، مساءً. ليست تلك هي المرة السابعة، منذ بعد ظهر اليوم، التي يُحدِّق فيها صوب الساعة، تلك الجاثمة على حائط ضلوعه الفائرة. فقبل تسع دقائق فقط، كان قد نظر إليها بتوهن وتوسلٍ جم إنه الإنتظار. حُمىّ المواعيد. وخروج الروح لمعانقة الروح.
جلس قبالة الساعة الحائطية، تماماً. بحيث تـُـطِـلُ عليه، للوهلة الأولى، بمجرد أن يشحذ بصره إلى أعلى. يدّعي، أحياناً، وفي تحدٍ هش، أنه لن يبالي بملاحقة الزمن. فتجده يجوس’ بطريقة ماكرة، بنظرةِ في أنحاء الغرفة، وفي إتجاهات مختلفة. متحاشياً، بذلك، ساعة الحائط. يراقب مرة حركة الطيور داخل القفص ليشغل نفسه ويبالغ، تارة، في التكهُن بمعرفة موديل السيارات المارة على الطريق الخلفي لحديقة المنزل. وذلك حسب أصواتها، لينكمش لحظة أخرى على أحلامه المتدفقة، المرصّعة بخيالات بهيجة. ولكنه أخيراً، وفي هزيمة ظافرة وأليفة، يهجم بعيونه، دفعة واحدة، على ساعة الحائط.
قبل أيام.
أو قل الأسبوع الفائت.
كان قد هاتـفها كالعادة. فها هو، لا يزال يبلل أشواقه بعصير أنفاسها، وعبير مواعيدها القادمة. كان لقاءً هاتفياً متألقاً، لقاءً مشحوناً بالوعود، وتصورٍ لمستقبل مشتعل بالإنجازات الثرة.
ـ ألمْ أقل لكَ كفانا من تشاؤم؟!.
ـ أيّ تشاؤم تقصدين؟ أنا، عموماً، أصبحت شخصاً إحصائياً، يحسب حتى همومه، ويحبس أحلامه في حدود ما يتاح!
ـ يا لك من عنيد، دجنّه إيقاع الزمن الإلكتروني، وصرامته، فصار لا يلتقط من الواقع، في فوضاه الزاهية، إلا ما يعزز هذه الصرامة!
ـ دَعْكِ من هذه المشاكسة الطائشة، وحدثيني قليلاً عن طعم قبلتنا الهاتفية الأخيرة.
ـ ( - - - - - - - - - - - )
ـ ( - - - - - - - - - - - )
ـ المهم أن لا تنسى مواعيدنا، في الخامسة، مساء السبت القادم. تأكد أنني لن أتسمّر في إنتظارك على الطريق العام، لأكثر من ربع ساعة.
مساء اليوم. في الخامسة.
بالرصيف، قرب محطة البنزين، بمحاذاة كشك "عبد الصادق للسمك"، لقاؤكما ذو الأهميّة القصوى. إليكما. معاً.
المواعيد تجرجر عليك أذيالها بكسل، كما يزحف تلميذ في طابور عقاب مدرسي، منتظراً نوبته. في ماذا تُحدّثها، وأنت مُزدان بكل تلك المواضيع اللاهثة، والمكدسة برأسك، كعصافير خريفيّة؟!
"سأقول لها:
أن قبلتنا/الهاتفية، السابقة، قد صيرتني بحراً في قصِيْـدَتِك. ولا زلتُ أتوكأ عليها، وأتحسسها برفق وتَوددٍ.
وها أنذا قد أعددتُ لك،
ما استطعت من الورد، والقبل.
فكوني،
دوائر تنداح بصمت،
تزرعين المكان بعبق حضورك الباذخ،
وتبددين بشفاهك المتمردة
قلقي،
وضجري.
لأبعثر فيك
لغتي
وشعري
وكلماتي التي سترسو يوماً،
على شاطئ إبتسامتك الجليلة، فهل قلت كل شئ؟ لا!
ربما نتحدث عن شجون الأصدقاء، وحضورهم المضيء، طوال ثرثرتنا في "قعدة" البارحة. على كلٍ، هذا الموضوع يسبب لي نكداً، ووجعاً خافتاً، ليس ذاك وقته. ثم إن هذا اللقاء هو حوا ر الشباب، والتدفق، والتنزه العاطفي في جسد اللغة.
بندول الساعة الحائطية يدغدغ أذنيه.
"لا. بل من الأفضل أن أبدأ معها حديثي، بشكل تلقائي عن "الموضوع"، خاصة وأن هذا اللقاء هو الأول و"المباشر" معها. هذه العفويّـة في حديثي، من المؤكد، وبشفافيتها القاطعة، ستكتشف من خلالها ذلك الصدق الطفولي، المختبى خلف عيوني، وكلماتي المتناثرة بحياء.
سأحدثها ـ إذن ـ عن منتدى الخميس القادم. وكيف أنه، هذه المرة، سيكون ملتهباً، وشيقاً بين أصحاب قصيدة "لن" وأصحاب قصيدة التفعيلة. ستتحدث فيه، أيضاً، نهى زميلتها السابقة بكليّـة الآداب، وآخرون. نهى ستقدم مداخلة مختلفة، وطريفة، عن "ماهيّة الفرق بين التناص والتلاص". وفي المنتدى الذي يليه، سأشارك، أنا، بورقة عن "سلطة الخطاب".
لا. لا. بل …. بل يجب أن أتحاشى هذه البدايات المفتعلة والمعقدة. ثم أنها بداية متعالية، لا علاقة لها بالتوحّد، والعشق.
الناس ـ عادة ـ يبتدؤن حديثهم بالكلام عن حالة الطقس، ورداءة المواصلات، وغير ذلك من الأحاديث عديمة الدهشة، في محاولاتهم لدفع الحوار، وجدَبه. بالله كيف أنزلق تفكيري، وخيالي، لهذا الحد من الارتباك والسقوط!. وأنا صاحب الخلق والمبادرات؟.
ثم أني لا علاقة لي بهذه البداية غير الموفقة، كوني أمتلك مواضيع غنية و"حساسة" وهموماً مشتركة معها. فكيف لي ـ إذن ـ أن ألجأ لهذه الطريقة المضطربة؟! فوق ذلك، فهي مضللة، ضحلة، وشديدة الركاكة، لا تليق بمحب وسيم مثلي. ربما يوحي ذلك لها بعدم مقدرتي على التجاوز والإبتكار، وصياغة الحوار العاطفي، ومتابعته، مقابل حيويتها المتفجَّرة كوردة، وقدرتها الفذة على توليد عبارات العشق، أو حتى مقدرتها على تصميم خطاب المطبخ. وغيره.
بندول الساعة الحائطيَّة يدغدغ أذنيه.
الوقت، ولا فضاء إلا للوقت والإنتظار.
غفى من حالة شروده تلك. خُيَّل إليه أن عاماً بكامله قد مضى على سرحانه الغامض ذاك. أحس بحلقه جافاً وحامضاً، وثمة خدرٍ ما بيده اليسرى. عدَّل من جلسته، وتثاءب عميقا. فرك عينيه براحتي يديه، كالذي يزيل عنهما غشاوةً بائتة. ثم مسح على طرف فمه الأيمن، حيث لعاباً خفيفاً كان قد أنزلق. فرد يديه، لأعلى في الهواء،: انه يبحث عن صحوٍ طازج، لينثره على ذاته المضرجة بكسل عتيق.
إلتفت إلى ساعة الحائط، بهلع ووجوم، فإذا بها قد تجاوزت السادسة ونصف مساء.
أبريل ـ نوفمبر 1998م
أمستردام

عبد المنعم الجزولي


الواطــــي
عبد المنعم الجزولي

كنت صغيرا جدا. لم أعرف بعد أسرار الحياة ولم أفك الكثير من طلاسمها والتي اعتقد جازماً أن بعضها يستعصم حتى على إفهام الكبار.

وجدت الباب الخلفي مفتوحا. وهو أمر نادر جداً. بل يمكن القول بأنه مستحيل.

فلم استطع مقاومة الرغبة العنيفة في الحصول على تفاحة، من شجرة التفاح المنتصبة في الجانب الغربي من المنزل. ولعلها كانت شجرة التفاح الوحيدة في المدينة كلها. وكنا لأجل الحصول على ثمارها - المحرمة بالقطع علينا- نتسلق سور منزل (أولاد بربر) رغم ما في ذلك من مخاطر قد تكسر رجل أحدنا، هذا إذا نجانا الله من السلك الشائك، المنصوب أعلى السور. ثم بعد ذلك علينا أن نتجاوز محنة "الواطي" كما كنا نسمى كلب حمدنا الله الذي جاء به خصيصا لحراسة الشجرة إياها.

في هذا الوقت بالذات يكون الواطي نائما. كنا نعرف مواعيد نومه، ومواعيد طعامه، وحتى مواعيده الغرامية. ثم وأن حدث أن كان صاحياً، ففي هذا الوقت يكون حتماً مربوطاً إلى سلسلته الحديدية. كان كلباً شرساً، لهذا يعمد صاحبه إلى ربطه بالنهار وإطلاقه ليلاً لحماية الدار من اللصوص.

انتابتني رعشة مخيفة وأنا أتخيل مذاق التفاحة في فمي. ولربما كان بإمكاني الحصول على تفاحة أخرى قبل أن أطلق للريح ساقي فراراً.

تسللت بخفة مطلوبة في مثل هذه الحالات. وسرت وقد اكتسى جسدي بشيء أشبه بالحمى. أو لعلها الحمى وأنا لا أدري. كنت قد اغتسلت بالعرق تماماً، وأنا أخطو بمحاذاة الديوان. كان باب الديوان مغلقا كالعادة، إعلانا بان صاحب الدار لم يعد من السوق بعد. الشجرة تقع مباشرة خلف الديوان. وعلى ابتداء أن اجتاز الفراندا الخلفية، والتي عادة ما تكون خالية. فأسرعت في خطوي مؤملاً اختصار الوقت الذي سأقضيه في بيت الجن هذا.

على غير ما توقعت...

سمعت صوت بكاء خافت كبكاء الأطفال. كنت عند عامود مدخل الفراندا. تسمرت في مكاني. ورغم الجهد الذى بذلته للعثور على أرجلي، فقد باءت كل محاولاتي بالفشل. ربما أن الله قد خلقني بلا أرجل وأنا لا أدري. ربما.

كان يشاع أن حمدنا الله يقدم طفلاً كغداء لكلبه كل يوم!

لم نعرف من أين يأتي بالأطفال ربما من مدينة أخرى.

حدثنا "حيدر البليد" انه شاهد عربة لوري كبيرة تقف أمام الدار ليلاً، وأن أطفالاً كثيرين قد أُنزلوا منها وهم مكتوفون بالحبال والجنازير، وزج بهم داخل البيت وهم يبكون. صدقناه طبعا فحيدر هو الوحيد فينا الذي يبقى في الشارع حتى وقت متأخر من الليل، يقضى معظم الوقت سعياً بين البيت ودكان صالح اليماني حيث تجلس أمه تبيع الطعمية. ولكن هل يتناول الواطي وجبته اليومية في مثل هذا الوقت. بالقطع لا. فنحن نعرف موعد غدائه بالدقة.

حانت منى التفاتة غريزية. كان الواطي ينام تحت الشجرة.

إذن فمن يأكل من!

هل حمدنا الله نفسه هو الذي يأكل الأطفال؟

قال الدسوقى ولد الشول بنت بربر أنه كل ليلة يسمع بكاءً كبكاء الأطفال وأنيناً ينبعث من وراء الحائط الذي ينتصب بين البيتين. وصدقناه بالطبع فكل الدلائل تشير إلى صدقه. أنا نفسي خيل إليّ أنني قد سمعت شيئاً كالأنين حين مات الجاك الترزي واضطررنا إلى النوم في الحوش الوراني في بيت العزاء الملاصق من الناحية الثانية لبيت حمدنا الله

رغم خطورة الموقف. ورغم أن المطلوب في مثل هذه الحالة بالذات ألا ألوي على شيء، إلا أن حب الاستطلاع كان قاتلاً. كان البكاء غريباً على مسامعي، ليس بكاء. أقرب إلى الضحك هو أو هو خليط بينهما. أصبح فضولي بحجم الفضيحة. لابد أن أرى الطفل الذي يأكله الرجل. فهي سانحة لن تتكرر مرة أخرى. كل ما هو مطلوب منى أن أتقدم نصف خطوة ثم أمد رأسي من خلف العامود و...أرى كل شئ دون أن يراني حمدنا الله. ثم حتى لو رآني، فهو منهمك بالقطع في آكل الطفل الذي أمامه ولن يضيع وجبته المضمونة بالسعي وراء وجبة سريعة العدو مثلي.

تقدمت مقدار شبر أو نحو ذلك. لم أقو على بذل مزيد من التقدم. مددت رأسي، وكان البكاء قد تحول إلى شيء غير مفهوم بالنسبة لي، لعله أنين أو ما شابه.

ولكن!

الرجل في السوق يبيع ويشترى. أنا متأكد من هذا. ولن يعود قبل المغرب. فمن يأكل من؟

هل فتحية بنت المخزنجى، زوجته، هي التي تأكل الأطفال؟ غير معقول طبعا! فتحية الظريفة والتي تعاملني بكل الحب والرقة لا يمكن طبعا أن تأكل الأطفال وإلا لأكلتني أنا شخصياً منذ زمان بعيد. كانت أمي ترسلني لأجلب شيئاً من بيتها، فكانت تمسك عنى الواطي وتقربني إليها وتضمني وتقبلني وتجلسني فوق ركبتيها العاريتين. نعم كانت تفعل أشياء غريبة بعض الشيء. كأن تفرك ذكرى بيديها أو شيء من هذا القبيل، وكنت أنا في المقابل أمسح فخذيها السوداوين تعجبا من لونهما الغريب واستدارتهما المدهشة. ولكنني لم أنطق بكلمة من ذلك، لأنها دائما كانت تعطيني قطعة من الحلوى بل وأحياناً تعطيني قطعة فاكهة غريبة المنظر ولكنها لذيذة الطعم. من يهتم بالمنظر؟ الطعم هو الأهم.

تشجعت قليلاً. إن كانت هي فتحية فيمكنني الادعاء بان أمي أرسلتني لاستلاف بعض الملح أو الكسبرة. مددت عنقي قليلاً فلم تطل نهاية العمود. كنت قد رأيت جانبا من الفراندا وبدا الصوت واضحاً. صوت فتحية نفسها في أنين متواصل. تشجعت عند ذلك وتقدمت قليلا. رأيت جانباً من السرير المفروش في الفراندا. بل وسمعت صريراً مزعجا ينبعث منه. هل فتحية بخير أم أنها مريضة.

طاف بذهني خاطر غريب. بنت المخزنجى وزوجها لم ينجبا أطفالاً. وبيتهما هو البيت الوحيد في الحي الذي يخلو من الأطفال. ربما حصل أهل الدار على طفل أخيراً؟ واجتاحني شوق عميم لرؤية الطفل. هل هو أبيض اللون قبيح المنظر مثل أبيه، أم أن لونه أسود وجميلاً مثل أمه.

تشجعت أكثر وتقدمت نصف خطوة. كانت كافية لكي أكون تماماً بمحاذاة عامود الفراندا. إن هي إلا حركة صغيرة من عنقي ويستبين كل شئ. مددت عنقي بهدوء. وكان الأنين قد بدأ يستحيل إلى شيءٍ غير مفهوم تتخلله استجداءات غير مفهومة هي الأخرى وزاد طين الفهم بلة أننى فوجئت بمؤخرة حمدنا الله العارية البيضاء بياضاً أقرب إلى الاحمرار، تماما في مواجهتي بينما بدت أفخاذ فتحية هي الأخرى عارية وسوداء ومصقولة أمام ناظري. ولم أفهم ماذا يدور بالضبط. هل يحاول الرجل قتلها أم هو يحاول أكلها؟ لعله قد استنفذ مخزونه من الأطفال فقرر أكل زوجته. ثم ماذا يتعين علي إن فعل؟

أحسست بأنفاس حارة تلسع مؤخرتي. فانتبهت فجأة.

كان فم الواطي ملتصقا تماما بسروالي القصير من الخلف. وقد كشر عن أنيابه ربما استعدادا لأكلي. كان موعد غدائه قد حان دون أن انتبه.


واشنطون
مارس2007




عبدالله الشقليني

قهوة المساء مع عرَّافة
عبدالله الشقليني
هو في العشرينات، جلس أمامها وقال:
ـ اقرئي لي من صفحات عِشقي، وارشديني ما المصير.
دفع هو (بالبياض)، وجلس قُبالتها. أمسكت بصغار قواقع (المريق) بين أصابعها، واختلطت الأقدار وقذفت بهن على الطاولة، ثم تفرست بعيني صقرٍ وقالت له:
ـ أنت صغير يا بُنيَّ في مُقتبل العُمر، من القى بِك في لُجَّة العِشق؟
قال:
ـ لا أعرف.
بدأت العرّافة تنظر، وتلونت قُرنيتاها بالضوء والألوان وقالت:
ـ غريب أنت، أي عشق وقعت في لجته !
رد كمن لا يدرك ما يقول:
ـ لِمَ؟
حركت العرافة بابهامها احدي القواقع وهي تقول:
ـ هي في الأربعين وأنت في الثانية والعشرين!. طفلتها الوحيدة وعمرها عامين. ترملت قبل عامين، وهي ميسورة من ميراث شيخ هرِم، تزوجها وهي في عمر أحفاده.
هز رأسه مردداً:
ـ نعم .. نعم.
استطردت العرّافة:
ـ كيف ساقك قلبك إلى تلك المهالك؟. هي تكبرك بما يكفي، وأنت في مقتبل العمر وتتوسط عمرك الجامعي، وأمامك سنوات لتبدأ حياتك العملية. تنظر أسرتك اليك، كأنك جِزع خشبي تبقّى من أشلاء سفينة يُمسك بها الناجون من الغرق.
رد بكلمات الواثق:
ـ أحببتها، ففيها من ملامح والدتي التي فقدتها منذ صباي. فهي طاغية الأنوثة، تزوجت هي بمعادلة الفقر والحاجة بلا محبة، من رجل يكبُر والدها. أجلسوها لمعادلة يقولون أنها عقلانية، تُكسِب الدنيا، وتَخسر نفسها برهة من الزمان. ومن بعد عمر قصير تبقى للشيخ الهرِم، تبدأ حياتها من جديد. لكن عمر الشيخ الهَرِم امتد عشرين عاماً أكثر مما نظره أهلها، ولم تنجب من الشيخ الا قبل موته بسويعات. ترك ميراثاً لها مسكناً فارهاً، ودخلاً من استثمار سكني يديره قانوني مقتدر. التحقت بالدراسة مُجدداً، وكنت أعينها. ونبعت المحبة من بعد معرفة نبيلة.
نظرته العرّافة بتعجب وقالت:
ـ كيف كنت تعينها!. أجلست لمعادلة عقلانية أنت أيضاً؟ .ألم تسمع بمن قال، اغضبوا ولا تخطئوا، ولا تعطوا ابليس مكاناً.
تغيرت ملامحه، وارتبك وهو يقول:
ـ ماذا تقولين يا امرأة!
صمتت العرّافة قليلاً، ثم نظرت قواقها الصغيرة، وهي تقول:
ـ كأنك تسرق من السيدة شيئاً، أو تعرف أنت لون تنورتها. كأنك تلمست قماشه الناعم، إنك تمسك بخيوط الخطيئة. اقتربتما من بعضكما، وربما هي تشكو حرماناً عاطفياً، أما أنت كأنك تلثم عنابها بعينيك، وذهنك يقدح ...
قاطعها بانفعال:
ـ استحلفك سيدتي لا تظلمينني، لم نرتكب الفاحشة أبداً. أحببتها بكل وُجداني وأرغب زواجها وفق الشرائع.
قالت العرّافة:
ـ رأيت المال يا ولدي، وأحببته. رغبت أنت امرأة دفئاً لمستقبلك. أمام رَبك أنت لص تهوى مال غيرك، تستحلله لنفسك، ولا يعفيك أن تبوح بأنك تُحِب وتعشق.
اشتد عليه الحصار، فقال لها:
ـ إنها تحبني، وسأكون رفيق دربها حبيباً وزوجاً يحميها..
قاطعته العرّافة:
ـ تجاوز أنت ماضيك وحاضرك، وانظر مستقبلك من بعد سنوات، عند الصفاء تطمح مستقبلاً وأحلاماً أكبر. هي في طور من يبحث الظِل والسكينة، تتعلم بعض الذي تغسل به الماضي، فقد عاشت شيخوخة حقيقية عند كل فجر يطِل، وإلى سكون الليل التالي، عشرين عاماً. لبِست وقار الكبار قبل موعده، ويغسل الدمع عينيها في ظلمة كل ليل. تفكرت هي أن تشق عصا الطاعة، وترمي بالبيعة الإجتماعية، وتعيش لجسدها تفي بحاجاته. تلفحت بشال التُقي يدعوها للصبر، فجلست في زورق من التمائم والتعاويز. زارت كل أقطاب الدجل المقنّن. دخلت عوالم الخرافة، ولم تسقط أسيرة الجسد ورغائبه. أنستها التعاويز حاجاته والدنيا ومذاقها الحلو. وجئت أنت في موعدك...
علت وجهه الحيرة وهو يقاطعها:
ـ من أين لكِ كل هذا؟. لا أصدق أن قبضة من القواقع الصغيرة، تطلعك على كل الدنيا. أنتِ ساحرة، ومن ورائك عظيمٌ من الجان، يعينك على ما تفعلين. أراكِ تؤثرين النُصح، وأنا قصدتُكِ لمعرفة مستقبلي!.
هزت العرافة رأسها كمن تؤمِّن على حديثه، أمسكت بقبضتها على القواقع الصغيرة، وقذفت بالأقدار مرة أخرى. أخرج هو منديلاً يمسح حبات العَرق من على وجهه.
فقالت له:
ـ نعم نبدأ من ماضيك يا ولدي ... وكيف بدأت؟. قدمت أنت أول مرة، إذ دَعتك تستذكر معها، فقفز دلفين المحبة من البحيرة الساكنة، يشوِّش عليك الدرس. تبدأ الشرح، وأنت تبسِّط لُغته، يفاجئك عسل العينين، بلوري الملامح. تبدأ تجميع أطرافك، وأنت تتلعثم ثم تعيد أنت الدرس من جديد.
قلت أنتَ للسيدة:
ـ أنت امراة مسكونة بالجمال كأنك في العشرين!، النور يلتف من حولكِ.
ضحكت السيدة ثم قالت لك:
ـ زماننا ولى، وما بقي إلا العمل الطيب.
فقلت أنتَ لها:
ـ أنتِ في مقتبل العمر، شباباً تنوّرين الدنيا.
فتبسمت السيدة من اطرائك وقالت:
ـ أشعر كأن قلبي يرقص، إنها متعة غريبة!، فما تعودت أذناي الكلام الجميل. وأنا من بعد أكبُرك كثيراً، أنتم الشباب تتقنون الكلام المُحلىّ. ستجد من تُعجبك، ابنة ثمانية عشر تبنيان عُشاً سوياً.
قلت أنتَ لها:
ـ من يُحب، تأسره العيون، ولا يملك نفسه عندما ينظر، مثلي تماماً. يقولون المُحب لا يعرف لون عيون من يُحب، ولا أعرف أي عسل هو لون العينين. لون العسل يتبع لون مراعي النَّحل، وأنا لا أعرف من أي عسل هو، ومن أي المناحل موطنه.
قالت لك السيدة متعجبة:
ـ ماذا تقول!.. أنت شاعري، وكلامك حلو. ستسعد هي من تكون من نصيبك. أرني من تُحب لأخطبها لك.
قلت أنتَ لها:
ـأنتِ من أحب.
صمتت السيدة بلا حراك، وأكملت أنتَ حديثك:
ـ إنكِ جميلة كزهرة ناضرة، تعتَّقت وهي تصارع الدنيا لتصل ضوء الشمس، ذكية ونابهة أنتِ في علوم الدنيا، من يعرفك لن ينجو من محبتك. خَرجت عيناك تجمل الدُنيا من حولي.
صمتت هي طويلاً، ثم قالت لك:
ـ أنا عالم من الأحزان، يمسك الماضي بكل حاضري. وأجمل ثمار الماضي إبنتي، وأعلم محبتها لك التي تسللت الى روحي حتى أشرقتُ من الكآبة، وتعلمت الفرح مما تحكي لها وتداعب. خرجت أحرف الأبوة من شفتيها عند وجودك معنا، تعودنا عليك. أرى نفسي تريد أن تنسى، وأخاف أن اعذبك معي.
فقلت أنت لها:
ـ أحببت الصغيرة بين يدي، وأحببتك أنتِ من بعد، وقلت مراراً إنني صادق معك.
قالت السيدة لك:
ـ أنت تُكذب عليَّ، ألم تعجبك زميلة أو رفيقة درب؟.
رددت أنت عليها:
ـ أنتِ أول طَعم أتذوقه من العِشق، دخلتِ أنتِ قلبي فتوهجت نفسي وتجملت دنيتي...
انتفض وهو يقاطع سرد العرَّافة منفعلاً:
ـ يكفي سيدتي... هذا يكفي، أريد صفحة مستقبلي!.
أمسكت العرّافة بصغار قواقع (المريق) بين أصابعها مرة أخرى، واختلطت الأقدار وقذفت بهن على الطاولة ، ثم تفرست بعينيها وقالت له:
ـ غُبار كثيف يلوَّن مستقبلك يا ولدي. أرى ألواناً متقلبة في عينيك، وطبعك يتأرجح في دُنيا مضطربة. في خطوِكَ أعشاشاً تُهدَم، وعصافير الدنيا جَزِعة تفِّر. أنت متقلب الطباع، أراك تطوِي قلبك في بئرٍ عميقة. تتكلس تقاطيع وجهك وأنت في رونق العُمر، من يقع في شراك محبتك يتألم كثيراً. تفجعه أنتَ عند كل منعطف، من حولك نار موقدة. مال وفير أنت لن تنعم به، و لن ينجيك إلا حاضرك. الحُب يا ولدي يهبط من العلا، فلا تعبث به.
19/12/2004

صـلاح الزيـن

"الصـلع" وما بعـد الحداثـة
"Nothing is poorer as a thought expressed as it was thought" W. Benjamin
صلاح الزين
هل تحتاج الشعوب إلى حكومات؟ ألقت بالسؤال، كفضيحة، إلى الحاضرين المشدودين بخيوط خفية نحوها، لكل خيط لون وجغرافيا. بالخيط الأحمر، مدلوق هكذا على ربلة ساقها، انتعل خياله صعداً نحو أسفل جسدهـا وبقى، لحين، هناك فقد ولد في منتصف الستينات ــ ثلاث أو أربعة أعـوام قبل أيار 68 (هذه "أل أو" لا تعني مدلولها الدارج وإنما كالفصول تختار أوقاتهـا). لا يهم، فيما أعتقد كثيراً متى ولدت هي ولكن، ومن البروز الطفيف لأسنانها الأمامية، يمكن أن تكون من مواليد أوائل الستينيات. كلاهما مواليد مرحلة كان التاريخ فيها "يتقدم من جانبه المتعفن" والشعوب تتلو خطاباتها على مكامن الاسرار والترهل الممطوط بالمرايـا و الفسيولوجيا الزائدة. برونق، أشبه بصمت السائرين في جنازة، تزوق الطاولة والجالسين حولها بالسؤال: هل تحتاج الشعوب إلى حكومات؟ قبل أيار بثلاث أو أربع سنوات كانت تنمية القطاع العام شعارات تتلو على ريح التاريخ بعض من مواضعات تحرر الأشجار من سبي الوقوف على حافات دروب مضجرة ومتربة. لا أحد، بالطبع، يدري إن كانت الرياح هي نفسها أم لا، ولكنه ولد في ذاك الزمن. ذكريات الطفولة وأصدقاء الدراسة إنسلخوا من مرابعهم تلك وصاروا فتياناً وصباياً: لكل شعار ولون.
“There have been men who loved the future like a mistress”(1)
هو: بشارب كاشواك القنافذ، يتقافز عند الطرفين منسحباً من الوسط المبهوم بظلال شعيرات إنقصف نموها أو تحجر، بهكذا شارب يعطيك إحساساً بمؤامرة مـا، ولكنه، متآمر صغير، صغير لضالات المؤامرات ذاتها. الساقين مسلولتين ضعاف كأرجل شبح منهوك يبدان بقدمين، مجوفتين من الوسط، هكذا مجوفتان، بنعلين إنسهكتا بفائض علاقات سابق، سابق ومقيم. صعداً، نحو أعلى الساقين، مروراً بركبتين متكورتين و بارزتين كأنهما غبناً سافر، نسيتان يوماً ما هناك، ينسقف المشهد بحوض مفعوص كجنبات وجه أرملة قد هرمت وهرمت. على الحوض، الحوض المبري كقبر قديم، تندلق بطن تكرشت أسافلها وفاضت عن حافة الحوض الأمامية كأنها تحية لم تكتمل أو يوم زائد في حياة محارب قد من معارك ونزال. أعلى البطن وبداياتها، كنميمة لا توفر المسافة والعبور، تنغرس عند أسافل الصدر، كخائن يلثِّم أقدام ملك زنيم. المساحة الفاصلة بين أيمن الصدر وأيسره، والمشبوحة كأثر غشيته ريح عجولة، المساحة هذه تغطيها شعيرات رهيفة تتناثر في صمت وضيع. منظوراً له من أمام، أمـام بعيداً أو قريب، يبدو الصدر كجرف تتطاول حوافه بزاوية قائمة مع وسط متراجع كطعم خبر مفاجئ. على المشهد، المشهد الذي يشبه جيشاً أطبق عليه من الوسط ينغرس عنق دوار بتفاحة "آدم" ببروز حاد كمنقار صقر. تعلو وتهبط التفاحة تلك عند الإلتذاذ، فيزيقياً أو معنوي. فوق العنق، مباشرة، العنق الدوار بنقاط إرتكاز متعددة كرادار حدودي، فك يتسع عند الأطراف ويستدق ويتراجع عند الوسط، يشف وينبري، ككذبة متداولة. أيمن الفك وأيسره، وكدخان رغبة مطفأة، يعلوهما زغب شفاف نحيل بلون رمادي تخاف عليه من التساقط حال تحرك الفك بكلام وحديث ـ كلام وحديث سليل أيار وما قبله. ينثلم الفك من وسطه، كشق على جدار، بفم تطوقه شفتان مشحوذتان ينطبقان، عند الصمت والتأمل، كطرفي رمس غيباً أمي إلى الأبد. الشفة السفلى تغطي أسنانآ سوَّدها التبغ والخمر الرخيص وبعض من همس لم يبلغ مقام الكلام. الضحكة المقذوفة عند إفترار الشفتين لا تحيل، كلولب إسطواني، إلا لذاتها وهي تطقطق وتتناثرفى فضاء تموجها حرة، فى إلتزام، من مرجعيات وغمام. هكدا تتناثر الضحكة، المبروم وسطها، كخصر قديم، وهي تتلو رغبات إنثيال الغمام مطراً يسح. الرذاذ، الرذاذ الذي يسكن، أحياناً، حواف الضحكة المتطايرة، الرذاذ هذا تنافذه فتحتي أنف تسند أرنبته عوينات طبية بعدسات سميكة ذات بياض متسخ وغائـم. في قلق مزنر برغبات متنافرة كقطار ذخيرة يتسلق سفحاً ما تتعجن العيون بحراك لا يقيم وزناً للعدسات السميكة ولا حدود المشهد. مقدمة الرأس، والمتراجعة إلى الوراء، كفرس مذعور، تزوق المشهد بحضور متواطئ لا يحفل بخفوت الإضاءة أو إرتباك الرؤيا وفقرها. ينغلق المشهد، المشهد كله، الممتد من أظافر الرجلين وحتى ما فوق العينين، ينغلق المشهد هذا برأس جالس، في طمأنينة ويقين، منذ ثلاث أو أربع سنوات قبل أيار 68. وككل الرؤوس، الجالسة منذ ذاك التاريـخ، يتكاثف، عند الأطراف، شعرها وينشبك ويتراجع وينمحي عند الوسط، كمغامرة أنهكها الوقوف (2). هكذا، هكذا هو، ستيني الملامح، أياري النزوات، بجمال وهيئة نموذجية، بحسرة متوارثة وشبق متغضن خصب خصوبة تاريخ مضى بضحايا بغير سراويل و غطاء.
هـي: من شعار وFeminism ومؤتمرات(3) وأسرة مهاجرة ومنديل معطر وحلقة مفاتيح. هي هي. هي كتلة من أنثى بحبائل يشف عنها الساق الأسمر الزائد عن بياض تنورة أنهكها الصعود إلى أعلى فاستراحت، في مكان ما، أسفل تكور النهدين، فانطلق الفكر والشعار الأملس ينثران البياض والرغبة المستعجلة. منذ زمن، تقول، لفت "ماركس" بقطن طمثها السادس عشر وألقت به في براميل النفاية ومن حلم ليلة سـعيدة أراحت عجيزتها، بترف، على رأس "فوكو" الأملس، وظلت هناك، تقول، ترقب أيار المقدود من تذكير تؤنثه، الان، مرور الأحداث وتبدل الطبقات. وظلت، وظلت تنتظر.
المكـان: العمايا، المجلوبون من حجارة خضراء وظلام مستريب، بأيدي بأصابع بدربه تخلط البايولوجيا والثرثرات بملصقات الدعاية وحقائب السفر المطلية بحنين وبكاء، العمايا هؤلاء، يتناثرون، كوصايا ميت، في زوايا الشارع الخلفي ذاك وقرب بيوت الهاتف، ترى، هل يرون، فيما يرون، الكلام المحمول على هواء سري وأسلاك ناعمة؟ ليس أقل من ذلك فتنة زجاجة الويسكي التي ترشد، في صدق حمي، إلى أصابع العمايا التي تدلك الأشباح على سقوف سقفها من سماء. والنساء، النساء الراكضات في روائح الطعام، يشففن، يترقرقن، كضوء قمر، على شارع خلفي يلفه ليل محزوم بشبق يتيم.
المـرأة البيضاء: بياض آسـيوي ولكنة تربك البيبلوغرافيا. هكذا، هكـذا هي على دراية بالغة بكاتالوجات الـ Handphone ولا يعنيها، كثيراً أو قليل، تماسك فرضية ماجستيرهـا، تعدد السلط، إنتخابات برلمان السـودان ولا إندثـار الصومـال. هي بيضاء بيـاض آسـيوي ولا ترى ثمـة مبرر لوجود مكاتـب الـ UNHCR على مقربة من ذاك المساء والعمايا المضجرون بظلام أخضر وحديث لا يرى. آسيوية تخاف سائق التاكسي وتلصصات الجيران.
هو وهـي: "ماركس" بصلعة و"فوكو" بشعر غزير. أيار وآخر، أمراض إنكسارات وتاريخ تلف. بروز أسنانها الأمامية الطفيف يعطي للرحيلات معنى وبطولة هشة معها يثابر الإنتصاب والشبق المجلو كمرايا معلقة في الفراغ. فيما، لو قليلاً، أراحت يدها، يدها المستديرة تلك، والتي تسند خدها الأيمن، لأعطت لذاك المجرى، المجرى الفاصل بين النهدين، قدراً من إندياح يرشد العمايا للهواء السري ولون الكلام إذ لا ضرورة لإختلاف معنى وحدانية السلطة عند "ماركس" وتعددها عند "فوكو". وفيما، لو مرة أخرى، أعـاد إصلاح وضع حذاءه ورجليه المشبوكتين تحت الطاولة، لعدلت من قناعتي بأن الـ Feminism مقولة مدينية. تتسع المدن فتضيق المجاري وتذبل ويمكن نقل خط الإستواء بطقسه المتمائل إلى أمكنة بمواسم أمزجة شتى و ريح بلونين. في كرم عريق تنهمر زجاجة الويسكي وترعف النساء بالوان وأطوال تنورات متشاكلة، ترعفهن بروزاً طفيف في أسنان أمامية. وتلك التي بالبياض الآسيوي لا يعنيها حتى وإن تشظت الزجاجة نثارات على عيون العمايا، بعيدة آسيا، بعيدة وخط الإستواء بريح ولون واحد وتاريخ الملايو إحصاءات وأرقام حسابية. الأعميين ذينك، بعصاهما التي تتلف خضرة الظلام، لو، وهما متخاصرين هكذا، كدودتي قز، لو يقتربان، قليلاً يقتربان من هذا النتوء الذي يحاذي الطاولة، الجالسون نحن حولها، هكذا، وكأنهما مقودين بسحر لون الكلام المدلوق على المكان، وكسحابة، سحابة مثقلة بماء ونوء طفيف، وهكذا، هكذا ينهاران على الطاولة، ونخف نحن، نحن الجالسون حول الطاولة والموصولون بخيوط غامضة بما تبقى من ويسكي وبروز عضلي لطبقة أنثها أيار وإنهيارات حلم حديث (ولنقل إنهيار أقاليم الإشتراكية وتحرر أرتريا)، هكذا، هكذا إنهارا، الأعمى القصير، ويمقدمة صدره المرضوض بإستياءات وإستشعار، ينهار فوق طرف الطاولـة الأيمن ويطيح بكأسها، المنديل المعطر، حلقة المفاتيح ومقولة ل "فوكو"، مطولة، مقتبسة من "تاريخ الجنسانية" (4) تلحق بها ولاعة حمراء في أعقاب منفضة سيجائر بها نثـارات ثلج خفيف وبعض من غواية. الطويل، الأعمى الطويل كضوء بلا مصدر، ينهار على طرف الطاولة الأيسر وبعصاه، عصاه التي تنفلت من يده، تطيح بالزجاجة، وعـاء الثلج، النظارة المسنودة بصحن حمص ومقولة، موازية، فيما أعتقد، تنقر جدران ذاكرة صلبها شبق رعف ووقـع حوافر حلم بعيد، جد بعيد. جانباً، جانباً سأزيح بالأعمى الطويل المردوم، كهيولي بخس، من على كتفي، ولا ألقي بالاً للقصير، الأعمى القصير الذي يسند جسده، جسده المفتون بإثارة المكامن والخبايا، يسنده، كله يسنده، وفي براعة نادرة، بفكه، وكأنه يود إمتصاص الطاولة. أخف نحوها، نحوها هي، المسجية، كشهداء حلمنا، والمقذوفة على بعد متر ونصف من حقيبتها اليدوية، أخف، هكـذا أخف، كنعي بجرح وحسرة، متجاوزاً، وفي إصرار بليغ، عصا الظلام، منفضة السيجائر، "فوكو" وبروز وجنتيه، المقولة الكونية والنظارة بنصفها المفصول عن بعضه الآخر، أتجاوز كل شيئ وأخف نحوها، كموجة، نحوها هي، برجليها المتصالبتين وتنورتها المنحسرة، كاهة تتلاشى، عن ساقين: يا الله !!!!! ساقين يصلحان لمضاءات صدأ سري. أسندها، يدي اليمنى تحت خصرها، خصرها المبروم كأنحناءة نهر، وباليسرى أصلح تصالب الرجلين وشحوبات "فوكو"، غير المعني، في كثير أو قليل، بالبيضاء الآسـيوية المعنية، بعمق كثيف، بتاريخ الأرقام والحساب، والتي، من على بعد ليس بالبعيد، ترقب إرتباك المشهد وبيوت الهاتف و دخان الطعام. هكذا، أريح جسدها، جسدها الخفيف كضوء وفكرة عابرة، أريحه على ساعدي وأركض بها نحو تاكسي وسائق.
سـرد النص / الحكايـة:
هل تحتاج الشعوب إلى حكومات؟ ألقت بالسؤال، كفضيحة، إلى الحاضرين المشدودين بخيوط خفيفة نحوها، لكل خيط لون وتاريخ. الخيط الأحمر مدلوق هكذا على ربلة ساقها، إنتعل خياله، صعداً، نحو أسفل جسدها وبقى، لحين، هناك، فقد ولد في منتصف الستينات ـ ثلاث أو أربعة أعوام قبل أيار 68.
مراجـع:
1- Kenzaburo Oe.
2- للمقارنة والتأكد يمكن معاينة صورة "مغارة هرقل" في طنجة المنشورة في مجلة العربي، عدد 444 بتاريخ نوفمبر 1995م.
3- كمؤتمر السكان، القاهـرة، سبتمبر 1994م.
4- أحـد مؤلفات ميشيل فوكو.

رانيـــا مأمون

كائنات متعبـة
رانيـا مأمـون
سطا التعب عليها ونال الإجهاد بعضاً من حيويتها. تباطأت خطواتها، وتخلفت عن أخواتها ومع كل ثانية تمر تتسع المسافة بينهن أكثر ويزيد البعد.
في هجير لا يتحمله حيّ كانت ماضية وأكثر انشغالاً بحالها من أن ترى أمامها، لكن ليس للحد الذي يجمِّد إحساسها، شعرت فجأة بأن الأرض أصبحت أقل قسوة وأن الغيوم انتصرت على الشمس في الأعلى، فرحت بحيث لم تعد تستطيع السير، وحدّثت نفسها أن تتعبأ بالنشاط من جديد بالتوقف والراحة برهة.
إذ ذاك تناهى إلى مسامعها أصوات آدمية، عرفت أنها لمجموعة من الرجال قالت:
- إذن ما ظننته انتصاراً للغيوم ليس سوى ظل، ولكن ظل ماذا ..؟
أجابت نفسها:
- ربما ظل أحد هذه الأصوات. لا يهم فمطلبي هو قسط من الراحة.
أضافت:
- حسناً يتبقى القليل فقط لنملأ مخزننا، ربما نوبة أو اثنتين أذهبها مع أخواتي وينتهي كل شيء ونقبع في بيوتنا مدة طويلة بعيداً عن هؤلاء البشر، كم أتوق إلى أن نجتمع كلنا نتسامر .. نتمازح .. ونتشارك أكل ما جمعناه وننعم بالدفء والسعادة.
- أجلس. أجلس يا رجل لأكمل ما بدأته لك.
سمعت هذا من أحد الرجال، ولسبب لا تدريه دخلها الخوف، تحركت بسرعة كي تبتعد بحملها، لكن سرعة الإنسان كانت أكبر..
وجلس الرجل ...
أحست وكأن السماء وقعت عليها، وأن الشمس هربت بلا رجعة.
اختنقت من ثقل ما فوقها وأخذت تتحرك بلا هدى في الحيز الضيق حيث وقعت، وفي سواد لا تتبين فيه شيء.
زادت حركة يديها لتتلمس أي شيء يعينها على تحرير باقي جسدها، تطاولت، دفعت بنفسها إلى الأمام، وعندما لم تلمس شيئاً أحست أنه فراغ فانسلت إليه بما تبقى لها من قوة..
إلى ذاك الفراغ يتسلل خيط من الضوء لا يسطع فيه، ولكنه أزال العتمة التي أحاطت بها للحظات.
- مالهم هؤلاء البشر.. لمَ لا ينظرون أسفل منهم، ألا يعرفون أن هناك من يعيش تحتهم..؟ يا لعماهم .. ويا لقسوة قلوبهم – إن وجدت - .. أين هم من نبي الله "سليمان" عليه السلام..
يا ويلي وأنا هنا.. يا ويلي وأنا وحيدة .. بعيدة عن أهلي.. ويا فجيعة أمي التي فقدت بالأمس أختي واليوم أنا .. يا إلهي .. ألن ألتقي بها وبأهلي مرة أخرى..؟ هل قدرنا أن نموت كل يوم، بل كل ساعة تحت أقدامهم..؟
انشرح الرجل كثيراً مع الضحك لدرجة جعلته يهتز ويتزحزح عن مكانه، وربما يعدِّل من جلسته ويأتي على السنتمتر الذي وقعت فيه النملة لحين وجودها لمخرج أو تكرمه عليها بقيامه..
- كم هو أنانيون أيضاً.. حتى هذا الحيز الأصغر من حجم ظفره لا يريد تركه لي، ما الذي حدا بي للوقوف هنا..؟ ألم يكن الهجير ألطف من هذا الذي فوقي..؟ أين أنتم يا عشيرتي ..؟ أين أنتم وأن هنا تضيق أنفاسي ويقترب مني الموت ..؟ ماذا أفعل الآن ..؟ كيف يمكنني الخروج .. أليس ثمة مجال لأخفف هذا الثقل وأتنفس ملء رئتي ..؟
أخذت تضرب بيديها وشاركتهما رجليها في كل الإتجاهات .. كثرت حركة رأسها.. علا صراخها .. ولا مصغٍ ..
يا للسخرية.. رغم الهواء الذي يملأ الدنيا فهي تختنق، ولا تجد لها موضع قدم رغم اتساع الأرض ..
تلاشت قواها .. لم تعد تحتمل أكثر .. وبكل لحظات عذابها .. بكل غضبها لسعته وبخّت فيه مادتها..
ما إن أبعدت فاها حتى صرخ الرجل وهبَّ واقفاً॥ غيظ الرجل وغضبه جعله يلاحقها ليدوسها .. وكل من معه .. كانوا بشر وكانت نملة .. كانوا جيش وكانت وحيدة متعبة بلا سلاح।
أبــواب
رانيـا مأمـون
استيقظ باكراً على غير عادته. منشرحاً ونشطاً غادر فراشه.
توجَّه إلى الحنفية ليغسل وجهه ويغِّير ريقه بمعجون أسنان بروح النعناع، وجد الماء مقطوعاً .. يا إلهي.. متى حضر هؤلاء ..؟ ألا ينامون أبداً ..؟
تذّكر أنه لم يدفع مستحقات هيئة المياه بداية الشهر، وكيف له أن يفعل وهو إذا دفعها لا بُدَّ أن يؤجِّل شيئاً آخر.
كان يستغني عن الكهرباء شهراً، والمياه شهراً، والهاتف شهراً، ويتحمَّل مضايقات صاحب الدكان واستفزازات مالك البيت، وأقسم لو أن الحكومة تسمح له بالسكن في الشارع لاستغنى عن البيت شهراً أيضاً، وبذا يدخل في قائمة المستغنى عنهم أو ما يسمِّيه "القائمة الهامشية" ...
حاول أن لا يجعل هذا الأمر البسيط المتكرِّر، يحظى بشرف تعكير مزاجه الصباحي الجميل .. تجاوزه؛ فهم دائماً ما يضعون احتياطيَّاً وعندما ينتهي بعد اليومين الأولين من انقطاع الماء، فخرطوم الماء طويل بحيث يصل إلى بيت أكثر من جار في الحي ..
- يا ولد ..أملا الجردل دا سريع، عاوز استحمى وأطلع ..
حمل الباب خلفه، رغم أنه لا يغطي كل فتحة الباب ..
مع انسياب الماء البارد على جسده أحسَّ بالنشاط، وتمنى أن يتجاوز اليوم ساعتيه القادمتين ويرميهما أو يعود إليهما مرة أخرى، ليس مهمَّاً. المهم عنده هو أن يغمض عينيه ويفتحهما فيجد الساعة التاسعة موعد استلامه لعمله ..
منذ اليوم لن ينتظر إعانات إخوته المغتربين المتقطعة .. لن يغيّر خط سيره تهرباً من صاحب الدكان أو الجزار أو جاره الذي يقاسمه معاشه .. لن يسير برنامجهم الغذائي على نهج ( يوم في ويوم مافي ويوم كسرة بموية ) .. لن ينام أبناؤه دون عشاء ولو كان كوباً صغيراً من اللبن ..
- لا ..لا ..لا .. أمشي يا ولد.. يا محمد تعال تعال الولد دا رمى الباب .. يا على امسك الولد دا الباب وقع ليهو في كراعو ..
وما كان الباب سوى شريحة من الزنك لا تغطِّي كل فتحة الباب ولكنها تستر مَنْ خلفها.
ارتدى ملابسه قبل أن يزيل الصابون عن كل جسده، وأقسم أنه سيغير هذه الشريحة من الزنك الصدئ التي يطلقون عليها مجازاً باباً ..
شرب الشاي، كالعادة سكَّر خفيف. توكَّل على الله وبسمل وأراد الخروج. ولكن ..
الباب! ما باله الباب..؟ حاول أن يفتحه وحاول أكثر وأكثر ولم يطاوعه .. الباب ذو (الضلفتين) إحداهما أقصر من الأخرى.
- تباً لهذا الباب الأعرج!
قال بحنق وواصل :
- يا محمد مية مرة قلت ليكم ما تقفلوا الباب الملعون دا شديد كدا .. أهو رزعة الباب دي خلتو يبقى كدا ..
عندما نجحت محاولاته أخيراً بعد رزمة من الكلمات الغاضبة، فتح الباب، سمع صريره نصف سكان الحي و"انكمش" كم القميص في يده اليمنى
لكن ..
لا بأس، فهو اليوم لا يريد لأيّ شيء أن ينال من مزاجه، حاول فرده بيده الأخرى وواصل سيره ..
استقل الحافلة واقفاً، ليس أمامه خيار آخر لا يريد أن يتأخَّر عن مواعيد العمل..
- يا ولد .. دخِّل الناس الفي الباب ديل عليك الله، ما ناقصين غرامات من الصباح..
صرخ سائق العربة.
بانتهاء جملته الأخيرة، أحس بأيدي تدفعه إلى الداخل وبدأت المعركة ..
- يا أخوانا لو سمحتوا، أدخلوا لينا جوَّه عليكم الله ..
هذا يلكم هذا، وهذا يدوس على قدم ذاك، والآخر الطويل منحنٍ وكأنه يصلي ..
- يا أخوانا أفتحوا الشباك دا .. الدنيا سخانة والسحاوي حايم الأيام دي …!
و.. و .. و أخيراً وصل محطته. اقتلع نفسه من بين الآخرين وقذف بها إلى الطريق، ومع وصوله اكتشف أن باب الحافلة أراد الاستيلاء على جزء من قميصه، فانتزع نصيبه منه وواصل سيره بقميص مثقوب..
تخطَّى تفكيره في هذا الأمر وأقنع نفسه: "لن ينتبه أحد إلى هذا الثقب" سيحاول أن يداريه ويخفيه عن الأنظار .. سيشتري واحداً جديداً بعد أيام، فهو الآن غيره بالأمس، عندما كان عاطلاً ..
دخل الشركة التي يمتلكها أحد رجال الأعمال (هؤلاء الذين يظهرون فجأة أغنياء ويُعتمون على تاريخهم فلا يُعلم سوى أنهم رجال أعمال.. كيف ومتى ..؟ لا أحد يعلم)
ولكن..
ماله وهذا ..؟ ليس شأنه ما يهمه هو عمله ودون ذلك خارج عن دوائر اهتمامه .. سيجدُّ في عمله ويثبت كفاءته، ويغيّر وضعه، وربما فتح له هذا العمل أبواباً أخرى مع قبيلة رجال الأعمال الغنية هذي ..
سيعيد الماء .. سيلغي نظام الاستغناء عن أحد مكونات القائمة الهامشية كل شهر.. ستبقى كل القائمة كل الشهور .. سيشترى باباً للحمام ويركِّبه ويصين أرضيته.
بعد فترة أيضاً سيصلح الباب الأعرج ويقوّمه، ولن يحتاجوا لشرب الشاي سكر خفيف، حتىّ لو بدعوى الحفاظ على الصحة وسـ .. وسـ ..وسـ .. وغرق في الحلم.
وصل مكتب رجل الأعمال في الطابق الثاني، تأمَّل الباب الجميل الشكل المتين والجيّد الصنع، "لا بُدَّ أنه من أحد المصانع التي تصنع الأبواب والنوافذ وغيرها، أو ربما كان مستورداً، وعلى كل الأحوال فهو قطعاً لم يُصنع في أيّ ورشة من ورش المنطقة الصناعية".
أعلاه لوحة أنيقة وفخمة محفور عليها "المدير".
تحسَّس الباب، كم هو بارد، أخذ نفساً عميقاً، أمسك مقبض الباب وقال في نفسه: " الآن ألج دنيا البشر".
لكن ..
ما به ؟! لمَ لا يفتح ..؟ هل هو أعرج أيضاً مثل باب بيته؟ أم أنه يُحمل مثل باب حمامه؟ أم أنه لص أقمشة مثل باب الحافلة؟
أدار المقبض أكثر من مرَّة .. طرق وطرق مرة أخرى وأخرى ولا جدوى.
مرَّ الساعي سأله:
- المدير موجود ..؟
- أنت عاوز المدير ..؟
قال بنفاذ صبر
- أيوه يعنى سألتك عشان شنو ..؟
- أنت عمر أحمد؟
- أيوه انا ذاتى بلحمي وعظمي …
- معليش المدير طلب مني لما أنت تجي أقول ليك انو الوظيفة دي أدوها لزول تانى واستلم الشغل خلاص .
- شنوووو ..؟! كيف الكلام دا ؟ وليه ..؟
- والله دا الحصل .
غضب .. ثار .. صرخ .. طالب بحقه .. قرع الباب وحاول اقتلاعه .. زاد الثقب في القميص ..
أولاده ما مصيرهم ..؟ لقد وضع كل أمله في هذه الوظيفة .. هو يستحقها .. يستوفي شروطها .. لِمَ تعطى لآخر..؟ لِمَ ..؟!
لن يغادر هذا المكان ما لم يجد إجابات لأسئلته، ما لم يعرف السبب. فكّر بوضعه.. بيته .. قائمته الهامشية .. إخوته الذين يقطّرون عليه إعاناتهم قطرة قطرة .. بباب بيته الأعرج .. بباب حمامه المحمول ..
آآآآآهـ ..
أرهقه عبور كل هذا وأنهكه التفكير في الغد، ارتمى قبالة باب المدير وبكى..
بحرقة بكى .. بقهر وإحساس بالظلم بكى .. ظل في مكانه وبين لحظة وأخرى يرفع نظره إليه عسى أن يُفتح أو يطل منه أحد .. طال الانتظار والباب موصد دونه.

د. بشرى الفاضل

ذيل هاهينا مخزن أحزان
بشرى الفاضل
خرجت الكلبة هاهينا تبحث عن صديقها الكلب هواهي. فمنذ أكثر من سنة وهما في حالة حب ولكنهما حزينان تماماً، حيث أن الأمور لا تسير كما ينبغي، إيجار الأزقة الضيقة أصبح عشر قضمات من قبل عصابات الكلاب المقيمة فيها، بعد أن كان من قبل قضمة واحدة، وليس هنالك مفر من الأزقة الضيقة، لأن الشوارع الرئيسية تعج بالبشر الفضوليين الذين يقاطعون باستمرار المتع الخاصة بمعشر الكلاب.. ها هينا وهواهي ثنائي متميز وسط الجميع. هي جميلة بشكل لا يوصف عيناها حمراوان، أنفها معقوف وفكها مستدير وشفتاها بليلتان، شديدتا اللمعان، القبلة منها تسكر أي كلب. أما هو فمتين البنيان، رمادي اللون، وفي جبينه غرة.. حسن الصوت حين يغني، كثير الإطلاع، لامع العينين، الحركة من ذيله تسكر أي كلبة.
تعرفت هاهينا على صديقها في حلقة نقاش لأفكار الفيلسوف هوكس. كانت الحلقة غاصة بالكلاب.. كلاب خلاء، وأخرى منزلية، كلاب صيد وأخرى بوليسية، كلاب بدينة وكلاب نحيلة، كلاب عمارات، وكلاب مساكن شعبية، كلاب لا بوليسية ولا كلاب. ومن بين هذه أعجبها هواهي لفصاحته وجرأته ووسامته.
كانت هاهينا خارج الصورة في الحلقة، إذ لم تقرأ شيئاً للفيلسوف المذكور، بيد أنها لم تكن أمية، ولعل موانعها تأتي بالدرجة الأولى من مشاغلها الكثيرة.
دحض هواهي تخرصات الجميع في الحلقة، وحين انفض سامر المجتمعين خرج منتشياً، تبعته هاهينا مصدرة صوتاً خجولاً، ولكنه مع ذلك جاذب للانتباه، نهاية الأمر تعارفا. وبعد شهور تحابا. قال لها هواهي:
ـ تعرفين يا هاهينا، هوكس العظيم يقول:
(تبا للبشر، لا تثقوا فيهم، عطفهم عليكم دافعه حرصهم على ممتلكاتهم فحسب) هوكس هو المكتشف الأول لسر قتل الكلاب. سألت هاهينا بدورها:
ـ قل لي يا هواهي وهل اكتشف هوكس أسرار عذابات أصدقائنا في الحياة؟ لملم هواهي أطراف وجهه دقيق الملامح وبلع ريقه وأجاب: نعم.. نعم له كتاب (سر الاختفاء الفجائي للخراف والبقر والدواجن). وكتاب (عبودية الخيول والحمر والبغال) وكتاب (القطط الوسيطة) وفيما يخصنا نحن، ألَّف هوكس كتاب (العظام عبر التاريخ) و (طريق الخلاص) ومقالة (بشرى للكلاب) ومسرحية (اختطاف) ومسرحية (لقمة السيد). وآخر كتبه المطبوعة كان (قصة الكلب البوليسي) ويعكف هذه الأيام في تحليل سيكولوجية كلاب العمارات.. سكتت هاهينا أعجبها جداً فرط ثقافة هواهي. نظرت إليه فاحتقن وجهها بفرح ملون وشغف كقوس قزح. فيما بعد حكت هاهينا الوقائع التالية:
- خرجنا أنا وهواهي نبحث عن العظام في دوائر الطعام الموجودة في أركان الأحياء. نبشنا ردحاً وعدنا (بخفي بوبي). وفي الطريق صاح هواهي: تعرفين يا هاهينا العظام نادرة هذه الأيام. كلاب العمارات أصابتها عدوى أسيادها فأصبحت تجمعها وتخزنها لتبيعها لنا فيما بعد. كنتُ أصغي باهتمام حين مد هواهي يده وتحسس وجهي فشعرت بلذة خاطفة. دنا مني وقبلني فانتشيت، قال لي: البشر يخجلون وأنت جاسرة؟ قلت له: جاسرة، جاسرة، خذ قبلة مرة أخرى. فمط فمه حتى سال لعابه وقبلني حتى غابت السماء بنجومها عن ناظري. حين عدت لوعيي كان هواهي يقول:
تعرفين يا هاهينا كلاب العمارت أصبحت تستورد طعامنا من الخارج لحم طازج وسمين وسهل النهش ماركة الفك، علبته بخمسين قضمة. هل ترغبين في فتة من هذا النوع؟ نظرت في ذيل هواهي المرح وقالت: (بَري يايمة) ضحك هواهي وجرى جانبا ثم قال: الآن أفخر بك يا هاهينا أنت في الصورة تماما، يا لك من كلبة رائعة!! ثم أكمل جريته لا كرجل أحمق يلحق حافلة تضاهي سرعتنا ولكن كما تجري الريح لتنبئ بلدا أصابه المحل بفأل المطر. جرى هواهي وغنى:
- هو هو هاهينا
فردت عليه:
ـ هو هو هو هواهي
ثم حرك ذيله وفكه ففهمته وتبعته فرحة راضية، حين فرغنا كان الوقت مساء، اقترحت عليه أن نتفرج في التلفاز.. وكان هواهي يكره الفرجة.. كان يقول: برامج تافهة وفكر ضيق الأفق. ولكني أجبرته فرضخ لرغبتي فالأنثى هي الأصل. وفي فترة الأخبار، أطل كلب بارز عظام الفكين كث الحواجب ونبح حتى كاد أن يهشم الشاشة البلورية:
- هو هو هو هاو.. أحييكم بخير التحايا هاو.. ثم أردف: إن جماهير الكلاب خالية من السعر – هذا – وصرح مصدر مسئول من قبل الأسياد بأن الكلاب لن تقتل بعد اليوم. في الحق، فرحت ونظرت لهواهي فألفيته يقطب جبينه ويغمغم. في الصباح كنت نائمة مع هواهي في حفرته حين سمعت الصوت الهائل:
- طاااخ
صحوت مذعورة. كان هواهي غارقاً في دمائه وقبل أن أفتح فمي بالنحيب المر صرخ في وجهي بحزم:
- اهربي يا هياهينا وانجي بجلدك. فجعت لم أكن ساعتها أفكر في نفسي. دنوت من هواهي وقبلته. بدأت عيناه تذبلان. كان تعيساً وحزين بهت البريق في عينيه سيّما حين ألقى علىَّ نظرة أخرى وتلاشى كالغريق وهوى. تجمعت لدي إذ سمعت طرقعة البندقية شجاعة صدمت المناسبة، فقفزت السور العالي وجريت كما لم أعرف قبل، كانت الريح تعوي: آ آوووو... كان لساني ثقيلاً ومع ذلك طفقتُ أنشد:
- آه أيها الكلب الجميل هواهي يا حبيبي أيها اللا إنسان، اللا بوليسي، الخالي من السَّعر، قتلوك؟ هوْ هو يا هواهي يا هواي.
وجرى دمعي لا كما يجري دمع امرأة كاذبة في مأتم مفتعل ولكن كدمع التماسيح المفترى عليها.
هرولت خمسة أيام بلياليها. حتى وصلت غابة هوكس، فاستقبلوني بفرح عظيم وحكيت لهم الحكاية من صوت نفيرها حتى أدق حذافيرها عزوني وطايبوني وتجمعوا حولى.
في المساء ناولني أحدهم كتاب هوكس (العظام عبر التاريخ) مسحت دموعي وفتحت الصفحات الأولى لأقرأ:
"جُبل الإنسان على الفتك، الرجل مخلوق من فتك التماسيح، والمرأة من فتك الثعابين. أنت إنسان إذن أنت قاتل. أنت إنسان إذن أنت مريق دماء. كان الإنسان فيما مضى صديقاً للكلب. كانا يخرجان سوياً لصيد الحيوانات الشريرة، ولكن كان الإنسان يغدر بنا حين يستأثر باللحم ويترك لنا العظم ولو كان يدري أن العظم يقوي حاسة الشم ويهبنا القوة والجمال، لأخرجنا من المولد بلا حمص. ولو كان يدري أن اللحم يورثه المرض خاصة مرض السعر الذي ألصقه فينا زوراً وبهتانا، لأخرجنا من الحمص بلا مولد".
وفي الصفحة العاشرة قرأت:
"أول من اكتشف النار كان كلباً ولكن الإنسان يزيف التاريخ، كان جدنا مكتشف وأسمه بوبي، يحفر بيتاً قرب كهف لإنسان حقير، صادف الجد بوبي أثناء حفره حجراً أملس فأعمل فيه مخالبه فلم تجد فتيلاً. فأعمل فيه مخالبه بسرعة أكبر فتطاير الشرر ثم اندلعت النار. رأى الإنسان الذي بداخل الكهف المشهد. حمل هراوته الحجرية وطرد بها بوبي عاد بوبي لقبيلته بخفيه تحت إبطيه هذا هو أصل المثل عاد بخفي بوبي). عجبت غاية العجب ثم قرأت في صفحة مائة ما يلي:
"أول من ابتدأ الضحك كان كلباً واسمه لاف، رأى إنساناً يضرب أخاه بفأس، الأول يضرب ويضرب، والثاني يجري ويجري فيلحق به الأول ويلطمه فضحك لاف حتى برزت نواجذه ثم ضحك هو هو. فتلقفها الإنسان وحرّفها بحيث أصبحت ها ها ها. ووضع قانوناً أسماه الإعلال والإبدال. قال كلب هو هو، فصاغ الإنسان الضمائر: هو، هي، هما، هن، هم. انفرجت أساريري وأصبحت سعيدة أثر قراءتي.
أفردت صفحة أخرى فقرأت:
"ألا لا يأكلن كلبٌ قوت كلب،
ألا لا يقتلن كلبٌ كلبا،
ألا لا يمنع كلبٌ كلباً من طلب العلم،
ألا لا يحرم كلبٌ كلباً من المتعة والفرح."
توغلت في البهجة وطال سرحاني، فأغلقت الكتاب، وعلى الغلاف الخلفي قرأت:
"ستعود مدينة الكلاب، وكما سبحت الكلبة لايكا في الفضاء سنعمر نحن هذا الجو."
ولا غناء إلا هو
ولا ضحك إلا هو
ولا كلام إلا هو
ولا إله إلا هو.
شعرت بسعادة غامرة عقب هذا الكلام حلو الجرس والديباجة.. وأدركت أني من قبيل سام المتفوق بحق وحقيق.
تصرّمت خمس دقائق، وأنا على حالي هذي، أتأمل وأتأمل الأفكار البديعة للسيد هوكس حتى جاءني جرو شاب بهي الطلعة كث الشعر على طريقة الجيل الجديد.. صفر لحناً جديداً على مسامعي ثم ناداني أن أتبعيني فتبعته، خرج بي حيث الامتدادات السكنية الجديدة المخصصة لحضرتك أيتها الأرملة الجليلة. قال هذا ثم أكمل بقية لحنه وعربد بذيله يمنة ويسرة تعبيراً عن كونه ارتاح لأداء واجب جميل كُلف به، ثم انصرف.
وبينما هو في منتصف الطريق صاح بي: أيتها الأرملة الجليلة إن كنت ترغبين في العمل بائعة في أكشاك بصل الكلاب زوريني غدا في مكتبي: (شارع لايكا عمارة 300، الطابق الأرضي، الحفرة الخامسة).
تمطيت وتحسست الجروات العزيزات بنات هواهي في بطني قلت في نفسي، يالهن من جروات سعيدات إذ يخرجن بعد أيام وربما بعد ساعات، لا أدري، للنور في هذا البيت الجميل، في هذه الغابة الجميلة، سأعلمهن وسينتقمن لأبيهن ويثأرن.
هوكس يقول (رفض البشر المساواة وسنرغمهم على قبولها). دخلت في فراشي ولم أنم. ولمع في لحظة خاطفة خاطر عن هواهي النبيل وتناهت لمسامعي أصداء خافتة لصوت حزين غامض: أووو – أووو.
ولا بد أنني كنت في البرزخ ما بين النوم واليقظة حين قلت: غدا سنخرج جميعا أجداداً وآباء وبنين وحفدة.. نخرج كالجمع الغفير بقضنا وقضيضنا، صعلوكنا ووقورنا، الكلبة الوالد والعاقر والعقور من الغابات والخلاء والجبال والأنهار، من ظلال الأشجار والآبار المهجورة والحقول والأدغال والشُعب والأمكنة والبطاح وسنلوّث أفواهنا الطاهرة بداء السعر من إنسان مصاب، وسنهجم على المدينة ونعمل أنيابنا فيها، ونعملها ونعملها، لا يحد الوباء مصل أو سلاح، سنعض أولاً التجار، فموظفي المكاتب، ثم المطربين الهابطين، وأصحاب المواصلات والأفران، والصحفيين وعمال الكبانيات والباعة المتجولين والكسالى والمرتشين، والأصدقاء والأعداء، المقامرين والمغامرين، أصحاب الكروش الضخمة والنحيلين، الراكبين، الراجلين، النائمين، اليقظين، التافهين، العظماء، الصم، البكم، اليتامى، وأبناء السبيل حتى إذا انقضت أربعة أيام حسوما ظهرت طلائع السعر على الجيوش إياها، وسيقضم التجار رقاب الزبائن، وأصحاب الأفران، والكمائن سيقضمون المرائن، وأصحاب المقاهي سيقضمون آذان الرواد، يقضم الحديد البرَّاد، ونظار المدارس أصابع التلاميذ، والعشاق شفاه عشيقاتهم، والأطفال حلمات أثداء أمهاتهم، والأزواج سيقضمون نهود زوجاتهم بحالها، ولن تروي لهم غليلاًًً.
سيجدع الرجل أنفه
وتجدع المرأة لسانها
والطفل خياله
والكلاب أذيالها
يجدع الأسياد عقولهم، والخائفون قلوبهم، والشجعان حماقاتهم، والحاقدون أسنانهم المصطكة. والعطشى يجدعون حبهم للماء، (يذبح الخروف مسعود ومسعود يذبح الخروف، ويصيح الدود في العود: هو هو هو) تأكل المدينة أحياءها العشوائية، وتأكل الكلاب كرش المدينة وتقف المدينة عامودية على الشح، وتجيء أطراف المجاعة، وفي الصباح يكف الديك عن الصياح ويصرخ: آوووووو، والناس والحمر والبهم والخيل والليل والبيداء جميعها تصيح:
أ آ وووووو
ولا غناء إلا هو.
لا كلام إلا هو. طفح الكيل وبلغ السيل مواطن الوجع.
تنهدتُ ولا أدري كم مكثت على حالي تلك ولكنني صحوت بعد أن ظننت أنني سأموت. كانت بجانبي خمس جروات لا أدري كيف هبطن ومن أين. وكانت علىّ آثار المخاض. غنّت الجروات..
- هيو هيو أيايا أيايا، فنبست لي نفسي
- ويح قلبي جائعات!
كانت السماء شديدة الصفاء، نجمة الكلاب المضيئة نفّضتْ عينيها فتطاير منها شعاع أصفر غمر الكون كله. وشهدت بأم عيني العشب ينمو، والنمل يجمع قوته، والطيور تصدح، وغمرني فرح فجائي حتى انحدرت دمعة في عيني اليسرى وما صددتها، ثم في اليمنى وما صددتها، وصرت شديداً جداً أبكي: أبكي ثم أبكي ملء الفم والحنجرة والذاكرة، في ذلك الصباح المشرق.

آرثر غابرييل ياك

المُشَـــوَّه
آرثر غابرييل


ـ مجاك..يا مجاك
لم يجب صاحبنا على زوجه التي كانت تناديه في تلك الساعة التي أعلن فيها الكون عن ميلاد يوم قشيب وأشعة الشمس الصباحية الدافئة تتسلل عبر ثقوب تلك الستارة الشفافة لتسقط على وجهه الذي بدا كوجه من آب لتوه من معركة خاسرة. نهض من مضجعه بتراخ متكلف ليظهر لعقيلته بأنه لم يسمعها رغم تأثير ما يشبه طنين ملكات النحل علي أذنيه حين نادته بذلك الاسم الغريب. ثم اتئاد نزرا مانحا نفسه سانحة للتروي متجنبا بذلك مأزق الانزلاق في تفكير يفضي إلى عواقب تفضح تأويلاته التي ارتأى أن لا يعرب عنها الآن. وبينما صاحبنا ذلك ـ وأعتقد أن من واجبك الآن أن تعرف أسمه الذي ربما قد لا يكون غريبا عليك هو "كاميلو نتالي بازقار" ـ يقلب احتمالات أن تكون زوجه ما زالت فريسة نوبات حمى الملاريا التي جعلتها تهلوس لمدة ثلاثة ليال دون أن تتوقف عن التفوه ببعض الكلمات الغريبة والتي فسرها أحد جيراننا، بأنها كلمات لحكيم أفريقي قديم وتعني: أن تعاني من أجل سعادة الآخرين فهذه هي السعادة نفسها.
هكذا قال جارنا منقو والذي طرد من إحدى الدول الأجنبية لأنه، وحسب تقارير شرطة تلك الدولة، متهم بممارسة الدعارة العلنية وذلك لأنه ضبط وهو يمارس العشق مع ثلاثة من الشقراوات في آن واحد وفي إحدى الحدائق العامة، دونما اكتراث لذهول السابلة الذين تسمروا في أماكنهم وهم في طريقهم إلى الكنيسة لحضور قداس يوم الأحد.

دعنا نعود إلى كاميلو نتالي بازقار مرة أخرى، وبينما هو يقلب كل تلك الاحتمالات، باغتته زوجه مرة أخرى وهي تقول: "يا مجاك في شنو أنا ناديتك هسي مليون مرة وأنت ما داير ترد في شنو؟"
رمقها كاميلو بازقار نتالي بنظرة عدائية لم تألفها ماريتا خلال زواجهما الذي تم بعد مجزرة ليلة العرس التي ارتكبها الجيش، فاكتفيا فقط بمراسم تقديس زواجهما في كاتدرائية المدينة دون أن يقيما حفل تتويج عرسهما خوفا من أن يحوله الجيش إلى حفل جنائزي مرة أخرى.

ألآن فقط تأكد "كاميلو نتالي بازقار" أن المقصود ب مجاك هو نفسه، وأن زوجه لم تكن تمارس طقوس كوابيس حلم مرضها، بل كانت جادة. يا ترى من يكون مجاك هذا؟ ربما يكون شخص على علاقة سرية بزوجي. حاول كاميلو نتالي بازقار أن يجد تأويلا لذلك ولكن دون فائدة، فآثر أن لا يخوض في غمار نقاش صباحي يعكر صفو يومه، لكنه رأى في امتناعه عن السؤال عن مجاك هذا ليس إلا إهانة لرجولته وتقليلا من شأنه. خاصة عندما يعلم بذلك منقو الذي منح تأشيرة خروج بلا رجعة من تلك الدولة الأجنبية، والذي جاءه في يوم من الأيام ليتوسط في حل سوء تفاهم نشأ بينه وبين زوجه، فزاده ضغثا على إبالة حين استشاط غضبا في كاميلو بازقار نتالي قائلا:
ـ ياخي مرتك العامله زي ابوقدح دي ما طلقها وشوف ليك غيرها.

إحساس غريب أجتاح نفس كاميلو نتالي بازقار. فجأة وجد نفسه يرسم في مخيلته صورة ل مجاك. رأي مجاك يقبل زوجه في غرفة معيشتهما، ومن أسلوب مداعبتهما تيقن أنهما يعرفان البعض منذ أمد ليس بقريب. أعجبه ذلك المنظر، فلأول مرة يرى زوجه في مثل تلك الحالة: سعيدة ومنتعشة كأنها اكتشفت جمال الحياة لتوها. امتزجت عليه الأمور، فتارة كان يرى أن الذي يمارس الحب في حجرته ليس إلا هو نفسه كاميلو نتالي بازقار، و تارة أخرى كان يراه ذلك الشخص الذي يدعى مجاك.

وبينما كاميلو نتالي بازقار غارقا في حلمه ذلك، حائرا، بين ما يستوجب فعله والاستمتاع في الوقت ذاته بذاك المنظر الذي قتل في نفسه غيرته كرجل، شعر بأن شخصا يهزه هزا عنيفا ومناديا إياه قائلا: "مجاك يا مجاك" نظر وعيناه تزوغان من أشعة الشمس التي أخذت الآن في الانسياب بين أوراق شجرة المهوقني وتسقط علي وجهه وهي تريد بذلك إيقاظه أيضا. فتح كاميلو نتالي بازقار عيناه ببطء الحريص على التواصل في حلمه، فرأى منقو، صديقنا المتهم بممارسة الدعارة في بلد أجنبي، واقفا فوق رأسه وهو يقول: "عليك الله يا مجاك أنت لو ما قادر ليها البيخليك تشربا شنو؟"

ذهول ممزوج بعدم الخضوع لمؤامرة خفية تحاك ضده كان هو الإحساس الذي طغى على كاميلو نتالي بازقار وهو يرى فم صاحبنا ينطق بذلك الاسم. فأدرك أن زوجه لم تكن الوحيدة التي تناديه بهذا الاسم اليوم. ثم أدرك أيضا أن الأمر لم يكن لينحصر في مجال المعرفة الضيقة فقط بل ذهب أبعد من ذلك حين ناديته أنا بنفس الاسم رغم معرفتي به، والتي لم تدم أكثر من ليلتين.

هرع كاميلو نتالي بازقار إلى داره وأنفاسه تكاد أن تسبقه، ودون أن يدري ألفى نفسه في وسط غرفته وهو ينظر إلى وجهه في المرآة جاهدا أن يعرف إن كان هو مجاك أم كاميلو نتالي بازقار. والحقيقة التي يجب أن تقال في مثل هذه الحالة المحيرة هو أن وجهه كان يشبه تماما وجه شخص يدعى كاميلو نتالي بازقار، وفي الوقت ذاته وبالإمعان في شكل أنفه الشاذ، والتجاعيد الصغيرة التي تزخرف عنقه تجده ودون أية ريبة بأنه ليس إلا مجاك. ولكي لا نتهم بفقدان العقل، ولممارسة الحياد التام حتى لا يتهمني صديقي بأني منحاز إلي هذا الاسم أو ذاك، يجب أن أقول وبذكر الاسمين معا أن كاميلو نتالي بازقاز ومجاك هذا لم يعرف أيهما أسمه الحقيقي حين أمعن النظر في وجهه مرارا وتكرارا.

"ما الفرق بين أن يكون اسمي كاميلو نتالي بازقار أو مجاك؟ هل الاسم يشبه وجهي أم وجهي يشبه اسمي؟ إن الكل الآن يناديني مجاك لذلك لا مفر لي في أن أتقبله رغما عن أنفي. ولكن ألم يكن الاسم هو هوية الإنسان؟ خمس وأربعون عاما وأنا أحمل هذا الاسم حتى أصبحت أنا الاسم والاسم أنا. فأنّ لي أن أبدل اسمي إلي مجاك رغم أني لا أشبه إلا كاميلو نتالي بازقار. لم يستطع مجاك أو كاميلو نتالي بازقار في أن يجد مخرجاً لهذه المؤامرة السرية التي حاكها الجميع ضده ببراعة. نعم الجميع: أطفاله، أقاربه وحتى أصدقاءه أصبحوا ينادونه ب مجاك.

هكذا قبل صاحبنا بذلك الاسم مجاك مخافة أن يودع مصحة للأمراض العقلية والنفسية، خاصة عندما المح له "منقو" بذلك و أخبره أن هناك في البلدان الأجنبية مرض مشابه لمرضه ذلك، قائلا: "في إيطاليا كان في واحدة مريضة بنفس المرض. نست إسمها، والأسوأ من ذلك كانت تؤمن بأني زوجها."
ـ وأنت سويت شنو؟
ـ أوف كورس ما قصرت معاها. أرحم المساكين يرحمكم من في السموات.

لذلك أيضا وحتى نلتزم الحياد كما تعهدنا سابقا، فلا بد علينا أن نسقط ذلك الاسم كاميلو نتالي بازقار لكي لا يظن مجاك بأننا معشر الرواة نشارك أهله وأصدقاءه تلك المؤامرة التي أحيكت ضده بذكاء. هكذا صار صاحبنا يحمل ذلك الاسم مجاك طيلة الفترة التي عاشها في القرية، و نسى كل امرئ أمر ذلك المجنون الذي فقد أسمه، حتى مجاك نفسه كان قد نسى أن شيئا كهذا قد حدث إليه. إلى أن أنقلب كل شيء رأسا على عقب في ذلك اليوم العابس، وأصبح مجاك نفسه على حافة الجنون. حدث ذلك عندما جاء وفد من المنظمة العالمية للصحة العقلية ويرافقهم مدير شفخانة القرية الذي كان يبدو من هيئته أقرب إلي متشرد منه إلى شخص يهتم بصحته ناهيك عن صحة أهل القرية، ونادوه مخاطبين إياه باسم غريب وهو كاميلو نتالي بازقار .

أراد مجاك أن يشرح لهم بأنه لابد أن يكون هناك سوء في التفاهم وأن اسمه ليس كاميلو نتالي بازقار. وقبل أن يتفوه بكلمة قال له رئيس الوفد أنهم متفهمين لما حدث له طيلة هذه السنين، وأن مكتبهم القابع في صدر تلك المدينة التي بلون الثلج كان متابعا لتطورات وباء المرض النفسي الذي اجتاح كل القرية و لم ينج منه إلا شخص واحد هو كاميلو بازقار نتالي، والذي قبل على مضض أن يصبح مجاك حتى لا يثير حنق أهالي القرية الذين عانوا طوال هذه الحقبة من مرض الجنون، والذين الآن ـ بمساعدة المنظمة العالمية للصحة العقلية ـ قد استعادوا صحتهم النفسية.

لم يقبل مجاك بذلك رغم أن كل القرية، بعد زيارة الوفد، أصبحت تناديه ب كاميلو نتالي بازقار. لم يعرف مجاك إن كان هو المجنون أم أن القرية بأكملها ما هي إلا مصحة كبيرة، ولم يعرف أن كان اسمه مجاك أو كاميلو بازقار نتالي، لكنه فقط، ودون أن يلقي بنفسه في متاهة البحث عن شخصيته الحقيقة، كان يعلم تماما بأنه ليس ب مجاك أو كاميلو نتالي بازقار، بل نسخة مشوهة من الاثنين.

أســامة الخواض

"وللكمثرى وظيفة أخرى"
أو الوقائع الخفية في حياة "منصور السناري"
أسامة الخواض
9/12/1987.
الحديقة يكسوها الثلج وبقايا صمت متناثر. العشاق يلتصقون ببعضهم بحثا عن الدفء الهارب من شوارع "صوفيا".. محطة الباص خالية إلا من العشاق والسكارى والتائهين مثلي.. قبل قليل كانت هنا.. تلبس معطفا عادياً يخلو من ذوق الأنثى. لكنه دافئ ومزدحم ببصمات أصابعنا العشرين.. شعرها مبعثراً كان. ومندى ببقايا ثلج وعطر خفيف.. كانت هنا للمرة الأخيرة.. وجهها كان مليئا بخزن غامض وبعض قسوة غير معلنة.. قالت لي "أنت غير جاد.. سأعاني من ماض معك.. ليست مشكلة، لم تترك لي مجالا للتعليق، أخذت حقيبتها الأفريقية وهرولت حتى غابت بين أشجار "مدينة الحرية".. وكانت تمارس بوجع هوايتها المفضلة "البكاء" لم أكن حزينا، لكنني سرت صامتا .. وخلافا لعادتي القديمة، لم أغن على الطريق إلى محطة الباص.
10/12/1987م.
صحوت من النوم متأخراً.. تحسست سريري المترجرج، تذكرتها بعمق وشهوة.. أخرجني من ذلك العمق الجميل صوت زميلي في الغرفة مصيحا على، وداعيا إلى شرب كأس من الشاي.. شكرته معتذرا بأنني لم أنظف فمي جيداً من قبلات قديمة.. بتعجل شديد ارتديت ملابسي، وقذفت بنفسي في الطريق.. شعرت بآلام حادة في كل أجزاء جسمي مع قلق لطيف.. دخلت المطعم الطلابي، وخرجت منه مثقلا برائحة الخس والتفاح.. عددت "الفكة" التي في جيبي، فاكتشفت إنها لن تسمح لي باحتساء كوب من القهوة، والتمتع بمنظر النساء الجالسات، -وأيضا- النساء الواقفات في الصف.. أدرت النظر بحثا عن السودانيين، فلم أجد أحداً، فانحشرت في أول باص.
مزدحما بالارتباك دخلت مبنى الكلية، ألغيت المحاضرة، فجلست على مقعد في الحديقة المجاورة.. منذ عام كان هذا هو اليوم الوحيد الذي لم تحضر فيه خفية مندسة من عيون الفضوليين، بي اشتياق لسماع جملها المرتبكة.. كان يزعجني عدم قدرتها في اختيار المفردات.. قلت لها ذات صفاء (ولماذا لم يسموك "ارتباك"؟).. بكت..
17/11/1986.
كنت أقيم في السكن الطلابي المجاور لسكنها.. ولهذا السبب – فقط – كان على تدريسها اللغة البلغارية ضمن مجموعة طلاب جدد.. منذ خمس سنوات أقوم بهذا العمل.. لا أنكر إنني أجد متعة في ذلك العمل رغم التكرار والرتابة، ففي هؤلاء العصافير تحس طعم البكارة، وتشم رائحة السودان الذي لم أطأ ثرائه منذ ست سنوات.. بدأت بالحديث عن قواعد اللغة البلغارية.. شارك كل الحاضرين بالنقاش والأسئلة والتعليقات المرحة.. كانت صامتة، بين الحين والآخر كانت تلتفت ناحيتي.. لم تجذب انتباهي، عادية الجمال كانت، ومن وجهها يطفح نشيد حزين وأليف.. ترتدي بنطلون جينز قديم، وبلوزة اجتهدت – إلى حد كبير – أن تبدو أنيقة.. رغم ذلك كانت تذكرني بالمقدمين على الجنون.. لم أعرها انتباها، وواصلت الشرح بين أكواب الشاي والعصير ورائحة السجائر.. انتقلت إلى الحديث عن المذكر والمؤنث والمحايد..فجأة انفجرت محتجة على ما أسمته التقسيم العشوائي (العلم مذكر أو مؤنث.. المحايد كذبة في ثوب اللغة) حاولت إقناعها بكل ما أعرف عن اللغات التي أجيدها.. وتلك التي لا أجيدها.. احتد النقاش بيننا، ففضل البقية فض الجلسة إلى موعد آخر هرول البقية إلى مساكنهم، وبقينا "أنا وهي" كان الثلج قد بدأ في السقوط خفيفا واعتدل الطقس قليلا.. كان الطريق فارغا إلا من مظلات تهرول في اتزان لزج.. قلت لها (لماذا خرجت في هذه الساعة؟).. لم تعر سؤالي اهتماما.. وبعد صمت قصير، حدقت في وجهي طويلا وعميقا. طأطأت رأسها، ثم نظرت إلى في تودد مشوب بالصرامة الأنثوية، وقال (هل لديك رغبة في مواصلة النقاش,) لم تنتظر إجابتي.. فردت مظلتها، وأشارت إلى بعينيها، فدخلت تحت المظلة.. كنا نسير صامتين وراء السكن الطلابي.. سألتني فجأة "أنت مذكر؟" وأردفت: وأنا مؤنث؟.. هل يعقل أن تكون هذه المظلة محايدة؟.. هبت الريح عاصفة.. أمسكنا بعود المظلة صرنا نغالب الريح، كنت صامتا، وعادتها كانت تثرثر عن أشياء كثيرة في ترابط غير منطقي.. وبعد قليل أفلتت المظلة من أيدينا، وسقطنا على الأرض.. من غصن عال في شجرة كمثرى كانت المظلة ترقب كائنين يتحدثان بلغة المتاهات..
22/12/1987.
بعد انتظار طويل في صفوف بقالات صوفيا. نجحت في الحصول على زجاجة كونياك، ودجاجة ورغيف.. دلفت إلى السكن الطلابي رقم 100 حيث يسكن صديقي بارودي.. كانت صوفيا تعبق برائحة البيروسترويكا، وبعض ارتباك يلف شوارعها وأحياءها، وأنا أعبق ببقايا كمثرى.. شاردا كنت.. في منتصف القعدة قال لي "بارودي" (أفهم أنها قد حركت في نفسك شيئا لا أستطيع فهمه.. ولكن حسنا فعلت، في لا تليق بك).. صمت، وواصلت الشرب في نهم وسرحان.. صرت أعب الكؤوس عبا حتى ثملت.. لم أتناول عشائي.. نزقا هرولت في الممر.. حطمت كل المرايا وزجاج النوافذ والأبواب.. غازلت العابرات في وقاحة.. حضرت الشرطة واقتادتني.. أمام مركز الشرطة، طلبت تدخين سيجارة.. أطلق سراحي لبعض الوقت.. لم أضع الفرصة، قمت بالتبول في حوض للزهور.. قام الشرطي بضربي من الأمام حتى سقطت مغمى على.. صبوا على ماء بارداً.. وحينما أفقت، سألوني "لماذا خرقت القانون؟".. فرأوا على مسمعي كمية من المواد التي تدينني، وسألوني (هل ترغب في قول كلمة أخيرة؟).. قلت لهم: اكتبوا.. أجنبي يبحث عن كمثرى في سماء صوفيا.. اتهمني الشرطي بالثمالة والبله، وقام بضربي.
23/12/1987.
في العاشرة صباحا، قام الشرطي بإطلاق سراحي بعد تغريمي خمس ليفا عقابا على تبولي على الزهور، ووعد بإبلاغ الأمر إلى المسئولين عن السكن الطلابي ليقوموا بمعاقبتي مرة أخرى.. خرجت مرتبكا أفكر.. لما كان ما كان؟.. دلفت إلى حانة مهملة، وطلبت زجاجة بيرة.. أشعلت سيجارة "بالتأكيد سيقوم مسؤول السكن الطلابي بتعليق صورتي في مدخل السكن متهما أياي بسوء السلوك، لن يدور بخلده كيف عشت هنا ست سنوات، قضيت ثلاثة منها بدون إمرأة.. بعد ذلك عثرت على غجرية تائهة قمت بتنظيفها قبل التهامها.. طلبت زجاجة أخرى وصحنا من الكباب والبطاطس. من الحانة تنبعث موسيقى شعبية ذكرتني بالقرويات اللواتي كنت اصطادهن من الشوارع الصامتة.. كن يعانين من أزواجهن المدمنين ووطأة الطلاق.. كن يفهمن إننى عابر.. كما كنت - في الجانب الآخر – متأكدا من هذا جيدا.. رغم ذلك، كان هنالك شيء يروقني جدا في علاقتي بهن.. كن يستقبلن بترحيب رائع طريقتي الخاصة في التعبير عن شعوري نحوهن.. كنت أفكر مع النساء بصوت عال.. سببت لي هذه الطريقة متاعب كثيرة مع النسا"ء المهذبات" قالت لي أحداهن يوما "أنت مهذب وطيب، وتبدو مثقفا.. معظم النساء يعجبن بك من البداية، ولكن ينقصك شيء واحد".. قاطعتها "أفهم ذلك.." ولكن هؤلاء العابرات يفهمن إنني أفهم ذلك، ولذلك لبرهة من الزمان يطرن من الابتهاج على إيقاع طريقتي المبتكرة، ربما لأننا جميعا غرباء نبحث عن دور خاص يليق بحالتنا.. ورغم ذلك لم تكسر تلك العلاقات روتين حياتي.. كبقية الطلاب السودانيين الضائعين مثلي. كنت أدخل زجاجة خمر لأخرج منها إلى أخرى أكثر قوة وأعنف سريانا.. بصوت عال ونشاز نغني أغانينا المكررة، نتشاجر، نشتم بعضنا البعض ثم ننام بالعشرات في غرفة واحدة.. نصحو لننتعش، نضحك، ننسى شجارات البارحة، نخرج، نفترق لنلتقي بدون سابق إنذار في غرفة أخرى.. نطرق أبواب الطلاب الذين يبيعون الخمر سرا. نهرق أموالنا ونحن جياع. قال صديقي "عبد الصمد" (نحن كالغجر).. "نعم" أم "لا" لا أدري.. لكنني أعرف جيداً شكل هذا الفضاء السلافي.. ست سنوات عصافير وعصافير عبرت، وشهادات هرولت، وجنازات هاجرت، والرتابة سيدة هذا الفضاء.. ولذلك نفرح بالطلاب الجدد لأنهم يكشفون لنا خواء هذا العالم، ويغيرون شكل القعدات (النقاش) الأغاني – طريقة إدارة الشجارات الليلية – و.. إلى أن يدخلوا الحلقة الجهنمية، فيكشفون لنا ضرورة هذا الخواء.
1/1/1988.
ممرات السكن الطلابي ممتلئة احتفال رأس السنة. وان محنط في سريري أشم رائحة كمثرى.. كيف تسلقتني هذه الكمثرى؟ ربما لسذاجتها الطفولية.. كانت صرامتي تجاه الأشياء والحوادث تزعجها، وأيضا تعجبها هي الشاردة في ثلج الغربة.. كعادة البنات القادمات من السودان ممتلئة – كانت – بالوحشة، ومن حديثها يفوح إحساس قاتل بالوحدة والعزلة.. كانت تبكي من سخريتي على العالم، وكانت تبكي – كذلك – من النشوة على سرير مترجرج تفوح منه رائحة السجائر و "الصعوط" والكتب القديمة وبقايا الخمر والقيء والبول.. لما تسلقتني؟ سرب أسئلة يحلق في فضاء غرفتي.. أسئلة هنا، وأخرى هناك.. مرة سألتني: ما هو شعورك حين خرجنا متعانقين ذلك المساء؟.. في ذلك الزمان صمت، وبكت هي بحرقة لم أفهم معناها، ولكنني – الآن – أذكر بلذة ووجع خفيف كيف خرجنا – تلك الليلة – متعانقين متشابكي الأيدي في صمت واطمئنان ووجل.. كنا نسقط على الثلج وننهض متعانقين مرة أخرى دون أن ننفض عن ملابسنا بقايا الثلج والطين وأوراق الشجر المتساقطة في مفترق الطرق بين سكنينا ، افترقنا كل إلى طريقه دون أن ننطق بحرف أو نلتفت إلى بعضنا.. إلى الآن لم أسألها عن شعورها ذلك المساء.. كنت لا أعطيها الفرصة كي تعبر عن نفسها.. ربما لاستيائي من طريقتها في التعبير عن ذلك، وربما لأنني كنت اعتقد أن ذلك غير مجد لإنسان مثلي يعتبر نفسه عابرا دوما في هذا العالم.. ولكن هل كانت عابرة؟ ربما من نوع خاص – كما فهمت الآن – كانت تعبر أسلاك الخوف وتندس – كلما هزمها الحنين في انكسارات عقلانيتي وشراهتي للنساء الخائفات.. مرة قالت لي (أخاف عقلانيتك مثلما أخاف حاجبيك الجميلين).. كنت – أيضا – أخافها، ولكن بدرجة أقل.. أخافني سريان الحنين الخفي الذي بدأ يتملكني أن الذي اعتقدت أنني قد تخلصت من العاطفة الهشة.. ست سنوات تعلمت أن أهزم مثل هذه المشاعر، أنا "منصور السنا ري" المعزول عن هواء وطنه ورائحته.. انقطعت عني الخطابات، وساهمت في ذلك بكسلي. سرت إشاعة عن زواجي بأجنبية، فقاطعني أهلي.. لم أكترث، وعودت نفسي على هذا.. لكني أشك - الآن – في كل ذلك.. فمع هذه النقطة الساذجة بدأت أكترث.. شيئا فشيئا صارت تمتلكني طريقتها الفريدة في نطق الكلمات "أجي ، بري ، كُر عليّ" بحس استشراقي، أعجبت برد فعلها تجاه ما يدور حولها.. تعبر عن شعورها وانفعالها بكل جسدها و..دموعها.. لكم امتلأت قمصاني وملاءات ووسائد سريري بفيضان بكائها.. كنت أرقب هذا الكائن العجيب بلذة بدأت باردة، ثم اشتعلت كما أنا مشتعل الآن.. فهمت – الآن – لما لم استطع أن أرد على سؤال مدير السكن الطلابي عقب تلك العاصفة. قال لي (لقد سكنت معنا هنا ست سنوات.. وكنت شابا وديعا ولطيفا.. ما الذي حولك هكذا؟ هل تعاني من مشاكل أسرية؟ هل في حياتك امرأة؟ هل.. هل".. في هذه اللحظة فقط، أدرك أن في حياتي عبرت امرأة ذات طعم خاص، أشعلت حياتي الخابية. واختفت ليظهر لي سؤال غريب "كيف سأرجع إلى وطني"؟
15/12/1988.
مطار صوفيا مزدحم بالمودعين.. أصدقائي يحشون حقائبي بالخطابات والهدايا، ويحشون ذاكرتي بالوصايا للأهل والعشاق. حانت ساعة الدخول إلى صالة المطار وودعتهم واحدا واحدا في شرود أصيل وأسى مصطنع.. شعرت بوخز عميق في قلبي.. كيف سأواجه وطني؟ كانت هي تقف منزوية، لم تودعني، وكانت ترمقني بطرف عينها الثالثة.. كانت حزينة في إباء أنثوي مهزوم، وكنت مرتبكا قليلا.. رمقتها باشتهاء كسير.. "ماذا في حياتي"؟.. داهمني هذا السؤال عند بوابة الدخول.. كنت أفكر فيه وأنا أتابع إجراءات السفر في تبلد.. فاحت رائحة كمثرى فسعلت.. تذكرت قولا لصاحبي بارودي "ليس من الضرورة أن تؤكل الكمثرى، ولكن لها وظيفة أخرى.." الطائرة المغادرة إلى الخرطوم ستحلق بعد خمس دقائق.. حملت حقائبي وهرولت تجاه لغز قادم وسؤال يطاردني "ماذا ستكون في حياتي"؟
صوفيا 17/11/1989.

أحمد الملك

الشيطان يحمل بطاقة هوية مزورة
أحمد الملك
رأيته فجأة يوم السوق، بين أكوام النسوة اللائي يعرضن للبيع ديوكاً هرمة خالية من الريش، وبيض الدجاج الذي يفقس الكتاكيت أثناء عرضه بسبب شدة القيظ، وبين الباعة الجوالة الذين جفت أصواتهم بسبب الصراخ على بضائعهم الرخيصة من عقود الخرز الملون وأواني البلاستيك، ورغم أن مظهره كان لافتاً للنظر بسبب ملابسه الغريبة وعينيه الشبيهتين بعيني صقر، إلا أن أحداً لم يكترث له، وهو يعبر وسط فوضى العفونة الناجمة عن أسماك الكور التي يضطر الباعة إلىكسر أعناقها حتى لاتقفز من طاولات البيع أثناء عرضها، ووسط فوضي الإرتباك الذي ساد بين الباعة لحظة مرور رجال الضرائب لطرد الباعة الذين لم يسددوا ما عليهم من رسوم، كان يمضي بهدوء مترفعاً عن هذه المصائب البشرية ساحباً خلفه شمساً صغيرة يعرضها للبيع بسعر التكلفة كما كان يعلن بصوت جاف مثل فحيح أفعى، ورغم أنه كان متخفياً بدهاء في ملابس شيخ ملتح، إلا أنني تعرفت عليه ومنذ الوهلة الأولى، ومن على البعد راقبته وهو يسحب خلفه شمسه الصغيرة منادياً عليها بلهجة غجري بأنه يمكن استخدامها للإضاءة ليلاً وأنها مضمونة لمدة عام، وكان يحمل في يده حزمة من الأوراق القذرة بسبب بصمات الأصابع، مربوطة بإحكام بشريطٍ من قماشٍ أزرق فيها ما يثبت كما كان يعلن ملوحاً بها، أنه استولى على هذه الشمس بطرق مشروعة، كان يرفع صوته قائلاً:
- لا كسوف بعد اليوم.
إلا أنه اضطر إلى تغيير ندائه بعد قليل، حينما اكتشف أن الناس الذين تكاثروا من حوله، لم يكونوا يرغبون في شراء شمسه الحقيره، التي يسحبها من خلفه مثل قرد بحبل من الحلفاء، بل ليستفسروا عن معنى كلمة كسوف، لأن الجيل الجديد الموجود في القرية لم يتسن له مطلقاً رؤية كسوف للشمس، فيما عدا مهرجان الكسوف المزيف الذي أقيم قبل سنوات من أجل تنصيب الملكة نورا ملكة على ايام الأربعاء، حتى أن كلمة كسوف ارتبطت في أذهان الجيل الجديد بمشهد فناة صغيرة فائقة الجمال ، زعمت الشائعات أن العميان كانوا يبصرونها حينما تعبر من أمامهم في قيظ الظهيرة فيما هم يقبعون بين أشجار الطندب، في انتظار لمسة شفاء نهائي على يد الملكة نورا حفيدة الملك كومالي الذي صعد إلى الأمجاد السماوية على ظهر ثور.
وفي النهاية حينما أيقن صعوبة بيع شمسه بخدعة الإضاءة الليلية، وتلمس الفتور في الهواء من حوله، وتعرف من بريق العيون أن الذين تقاطروا من حوله تجمعوا بدافع التسلية وأن أحداً لم يأخذ خدعته الضوئية مأخذ الجد، بدأ ينسب لها مقدرات علاجية، وفي البداية حاول أن ينسب لها بذكاء مقدرة مجربة على علاج القلق الناجم عن ضغوط إقتصادية، ولم تجذب دعواه الجديدة سوى بعض مديني البنوك وبعض المسنين الذين جذبهم إعلان أن النوم بضعة أشهر تحت هذه الشمس الخاصة يؤدي إلى شفاء مرضى الروماتيزم ويخفف من حدة حزن الشيخوخة، تقدم عجوز مترنح كان واضحاً من هيئته أنه لم يكن واثقاً من أن الإتجاه الذي يسلكه سيوصله إلى أي هدف، كان واضحاً أنه يسير لاعلى هدى ضوء الذاكرة بل على هدى ومضات النسيان، وفجأة حينما أصبح قريباً من نطاق الشمس الصغيرة المعروضة للبيع، توقف، ولاحظ الجميع أنه استعاد وعياً مشوشاً، وأنه لاحظ بسرعة أنه كان يسير دون خطة محددة وفجأة أصلح من وضع ثيابه واعتدل وبدأ يلقي خطبة حماسية عرف الجميع من مقاطعها أنها الكلمة الأخيرة التي القاها في الجمعية التأسيسية في العهد الديمقراطي الأخير، وفجأة استعاد العجوز مقدرته على النسيان ولاحظ الجميع أنه تشبث بها بقوة حتى أنه ركض ليخلص نفسه من نطاق أسر الذكريات.
تقدم ثلاثة من مديني البنوك كانوا ينظرون خلفهم بذعر خوفاً من هجوم مفاجئ من رجال الشرطة، ولحظة وقوفهم في نطاق الشمس المزيفة، بدا واضحاً عليهم استعادتهم لمبادرة فرح جماعي حتى انهم انخرطوا في الغناء ولكن فجأة كبسهم رجال الشرطة فانطلقوا يركضون وهم يغنون، ولم يكن هناك فرق سوى أنهم نسوا لماذا يطاردهم رجال الشرطة.
إلا أن أكاذيب الشيخ الغريب لم تثمر إلاّ حينما أعلن إمكانية إجراء اتصال مع الموتى بوساطة الشمس الصغيرة، عند ذلك تقاطرت مجموعة ضخمة من الأرامل اللائي فقدن أزواجهن نتيجة كوارث وطنية، تراوحت بين انقلابات عسكرية فاشلة، أو حروب أهلية، إضافة لأعداد من النسوة اللائي جئن بملابس الانتظار السوداء التي بدأت تتهرأ من فرط الصبر طوال سنوات في انتظار عودة المفقودين، قام الغريب بإجراء تجربة إقناع جماعية تحت شجرة جميز لقاء بضعة جنيهات جمعتها النسوة، حيث تحلقت النسوة في دائرة مغلقة حول الشمس الصغيرة في انتظار تحقق هذا الإتصال اللاسلكي غير المكلف، وبعد دقائق طويلة من الصمت الكثيف، قام خلالها الشيخ الغريب بقراءة تعاويذ سرية، بدأت تتضح مقدمات اتصال متقطع مشوش، وتجلت بوضوح خبرته الضئيلة في ضبط الصوت، فقد كان الصوت بعيداً وتتخلله صفافير أعاصير الموت، كما أدى عدم خبرته إلى نشوء خلط تقني في الأحزان، فرغم أن الأرملة فاطمة بت الزين كانت قد طلبت بأن تتحادث مع زوجها الميت منذ ستة أعوام بعد اعدامه رمياً بالرصاص إثر اتهامه في محاولة إنقلابية ضد الحكومة العسكرية، كانت الأرملة فاطمة بت الزين تتحرق شوقاً لإبلاغه بأنها ظلت وفية لعناده، حيث كان الزوج الأكثر عناداً في الدنيا، يحضر إلى البيت يوميا الأشياء التي لاتطلبها ويتجاهل تماماً الأشياء التي تطلب منه إحضارها، حتى أنها حينما تعودت على نزواته العكسية أصبحت تتجاهل الأشياء التي تحتاج فتقول له: نحتاج إلى لحم وخضروات، لتعرف أنه سيعود في آخر النهار وهو يتأبط لفافة تكتشف داخلها الحذاء المطاطي الذي تحتاج اليه. كانت الأرملة فاطمة تتحرق شوقاً لتبلغ زوجها أنها ظلت وفية لعناده وأنها لم تتزوج من بعده، مقررة أن تكذب عليه حتى في الموت لترفع من روحه المعنوية، بأن سبعة رجال تقدموا لها ولكنها رفضتهم جميعاً، رغم أن وفاءها كان إجبارياً، لأن أحداً منذ وفاة زوجها لم يجرؤ على الإقتراب منها، بسبب انتشار شائعة أن كل من يتزوج منها سوف ينتقل للدار الآخرة خلال أقل من عامين، لم تجد أحداً يجرؤ على مشاركتها غنيمة الموت، فركنت إلى وفاء متقطع، تخللت طقوسه مشاغلها من أجل الحياة وتربية ابنها الوحيد، كانت الأرملة فاطمة تتحرق شوقاً للتحادث مع زوجها إلا أن الشيخ الغريب قام بتوصيلها بوالدها الذي مات بسبب المجاعة غير المعلنة التي ضربت غرب الوطن أوائل عقد الثمانينات. وفي حين طلبت العجوز ملك الدار الإتصال مع ابنها الذي قتل في الحرب الأهلية، قام بتوصيلها بشخص غامض، زعم أنه كان زوجها الأول المتوفى في كاجوكاجي إثر إصابته بفيروس ايبولا أثناء عبوره نهر الزامبيزي مع قافلة من السواح البلجيكيين، إلا أن معلوماته كانت مشوشة، وبدا للعجوز ان زوجها الذي تبخرت صورته من ذاكرتها إلى الأبد، قد واصل في الموت نفس عدم انضباطه السابق في الحياة، لأنها عرفت من عمق صوته ومن رنة أحزانه أنه كان لايزال مخموراً، وفي حين طلبت الحاجة فاطمة بت فضل الله إجراء اتصال مع زوجها المفقود من سنوات، لالتطمئن عليه في الموت، ولكن لتحاول عن طريق إيحاء صوته، أن تستجمع خيوط صورته التالفة في ذاكرتها، حيث لم يتبق لها سوى صورة جانبية باهتة اقتطعتها من إحدى الصحف القديمة وفيها يظهر وهو يتحدث في الجمعية التأسيسية، وحتى تتأكد من أنه موجود بالفعل في الموت، لإبطال دعاوى العرافات اللائي زعمن لها بأنه موجود في الحياة، وانه سيظهر في اللحظات الأقل توقعاً، لكن الشيخ الغريب لم يوفق في توصيلها بزوجها رغم أنه أبقى خط الإتصال مفتوحاً لعدة دقائق ريثما يتم العثور على زوجها، وفي النهاية أوصلها بأحد أقربائها الذي توفي بسبب التعذيب في معتقلٍ سري.
وبسبب صدمة الأحزان الخطأ، تجمعت النسوة حوله،وحاولن الفتك به، رغم أنه حاول أن يشرح لهن أنه ليس مسؤولاً وأن الخلل يكمن في نقطة الإتصال البدائية الوحيدة في العالم الآخر، متوسلاً إعطاءه فرصة أخرى لضبط الأحزان. وهنا أبرزت له هويتي: رجل شرطة، وطلبت منه إبراز هويته، أخرج من جيب عباءته بطاقة هوية مزورة تفيد بأنه تاجر متجول مولود في بابنوسة، إلا أنني قمت بتفتيشه بدقة حتى عثرت على بطاقة هويته الحقيقية ملفوفة بإحكام في قطعة من الجلد، وأكدت بطاقته الأصلية شكوكي، كانت تحمل رقم تسلسله الشيطاني وبها صورته الأصلية، ويظهر فيها مزوداً بقرنين صغيرين مثل ذبابة، وشعر رأسه يبدو نافراً كأنه جذب بواسطة مغناطيس. أبلغته في البداية بالتهم البشرية المنسوبة له، وهي محاولة النهب والإحتيال، وانتحال هوية مزورة، كذلك واجهته بتهمة دخول الوطن والإقامة فيه بصورة غير شرعية وممارسته عملاً تجارياً دون الحصول على رخصة لذلك، كذلك واجهته بالتهمة الأسوأ: التهرب الضريبي، ورغم صدمةالمفاجأة إلا أنه استدرك نفسه سريعاً وأبرز رخصة تجارية سارية المفعول، وأبرز شهادة تثبت خلو طرفه من الضرائب.
سحبته خلقي إلى مركز الشرطة، ولحين انتهاء مشكلة توجيه تَهم بشرية إلى شيطان قررت احتجازه، وبعد مضي وقت قصير من اعتقاله، بدأ يستغيث فقد تحرش به بعض المساجين وضربوه وحاولوا تحطيم الشمس المزيفة التي كانت تسبب لهم أرقاً نهارياً بسبب مقدرتها على خلط أعراض الموت مع أعراض الحياة، حتى أن أحد المساجين أشعل النار في قدمه ليتأكد من أنه كان لايزال عل قيد الحياة، نقلته إلى زنزانة منفصلة وتسلمنا منه شمسه الصغيرة وحررنا له إيصالاً بتسلّمها، ثم رفعت إلىرؤسائي تقريراً وافياً بالحادثة، ولضمان عدم تسرب معلومات حول انتهاك إضافي لحقوق الشيطان، أشرفت بنفسي طوال ايام إطعامه، وأضفت إلى طعامه بعض العظام القديمة، لأني قرأت في أحد الكتب أنها الوجبة المفضلة للشيطان، إلا أنني لاحظت في الأيام الأخيرة أن حالته النفسية كانت تسوء باضطراد وأنه أصبح يركن إلى الصمت فساورني الإعتقاد أنه سوء حالته النفسي كان ناجماً عن اكتسابه لصفات بشرية، وأنه لم يعد يطيق العزلة، فأحضرت له بعض الصحف، طالع عناوينها الرئيسية بعدم اكتراث في البداية، ثم نبذها جانباً، لكنني حينما عدت في اليوم التالي وجدته غارقاً وقد زايله القلق في مجهود إحصائي لحصر عدد موتى الصحف اليومية، حيث وجدت أنه توصل إلى نتيجة تفوّق عدد الموتى على عدد الأحياء في الصحف اليومية، كذلك وجدته منهمكاً في إحصاء أحكام الطلاق المعلنة في الصحف اليومية والتي استنتج منها بعد حسابات مطولة استعان فيها بأرقام من ذاكرته الشيطانية أن الوطن في حالة جنون طلاق جماعي.
بعد فراغه من إحصاء المصائب اليومية في الصحف، والتي استغرقت وقتاً طويلاً عاد مرة أخرى للذبول، وبدأت حالته النفسية تسوء مرةً أخرى، فاكتشفت للمرة الأولى أن اكتشافه للمشاكل، كان وقوده الأفضل للتماثل للشفاء، فتذكرت يوم شاهدته للمرة الولى طليقاً وكيف كان يبدو سعيداً وهو يعبر نطاق نتانة أسماك الكور المتصاعدة في قلب السوق بين باعة الخضروات الفزعين من هجوم محتمل لرجال الضرائب، والأرامل اللائي يقطعن ايام الإنتظار الممل، في بيع اشياء صغيرة مستحدثة من الملل، يواجهن بثمنها جزءاً من نفقات الحياة الباهظة، وحيث رجال الشرطة يطاردون المزارعين الذين لم يستطيعوا الوفاء بالتزاماتهم تجاه البنوك بسبب كساد المحصولات الزراعية، في اليوم التالي اقتحمت زنزانته بأعداد إضافية من الصحف، حدست أنها ستزوده بوقود المشاكل لعدة أيام، لكنني اكتشفت بعد قليل، وبعد أن شرعت في التحاور معه، بأنه لم يكن موجوداً، واكتشفت أنه ترك في المكان رائحة مميزة تعطي إحساساً خاطئاً بأنه لايزال موجوداً، كان قد هرب بعد أن قام بتحطيم نافذة التهوية، واكتشفنا أنه استعاد قبل رحيله، شكله الشيطاني حينما عثرنا على شعيرات فولاذية متناثرة في المكان، وبقايا أظافر سوداء، وبقايا دم أسود، ورغم أنني لاحظت أن صورته تحللت بسرعة من ذاكرتي بحيث لم يتبق منها سوى نتف باهتة من صورة شيخ ملتح يعرض للبيع شمساً صغيرة بسعر التكلفة كما كان يعلن، إلا أن آثاره في المكان ظلت قوية في صورة أرق نهاري ناجم عن خلط أعراض الموت مع الحياة، حتى أن كل الأشخاص الذين مروا بالمكان كانوا يعانون حنيناً خارقاً لا للحياة، بل للموت، بسبب شعور خارق بتشابه أعراض الموت مع أعراض الحياة.

عبد العزيز بركة ساكن

امرأة من كمبو كديس


في صباح قائظ من يوم خريفي، بينما كنت أتسكع في شوارع المدينة – كعادتي – منذ أن طُردت من وظيفتي للصالح العام قبل سنتين – سمعت صرّاخ أطفال وما يشبه التهليل والتكبير وأصوات نسوة تندفع إليَّ مع ريح السموم الصباحية، آتية من جهة تجمع سوق النوبة، كان نهيق حمير الأعراب القادمين من أطراف المدينة هو الصوت الوحيد المعتاد بين مظاهرة الأصوات تلك. هادئون كانوا دائماً رواد سوق النوبة، يساومون في هدوء وخبث وحنكة، يشترون ويبيعون في صمت وكأنهم يؤدون صلاة خاصة. نعم قد يسمع نداء موسي السَمِح الجزار بين الفينة والأخري،وقد تتشاجر بائعتان، و قد، لكن تهليل وتكبير وصراخ أطفال؟!، وكفرد أصيل في هذه المدينة أمتلك حساً تشكيكياً عميقاً هتف في:

- إن هنالك شيئاً ما في سوق النوبة...

وكما يتشمم كلب الصيد أثر الأرنب البريّ تشممت طريقي الي المكان.

عزيزة – إبنة كلتوم بائعة العْرقِي – كنا نحن قطيع المثقفين نطلق عليها اخصائية العْرقِي – مرت امام وجهي كالطلقة الطائشة وهي تحمل – على كتفها – أخاها الصغير منتصر، غير عابئة بصرخاته المتقطعة المخنوقة بلعابه اللزّج والتي تثير الشفقة في قلب أقسى شرطي في العالم الثالث، كان أعجفا صغيرا،له عينان مستديرتان لامعتان كعيني سحلية.. أعرفها جيداً وأعرف أيضاً أنها عائدة من عند أمها كلتومة التي تبيع الكسرة. نهاراً بالسوق، فكان لزاماً على عزيزة أن تحمل منتصر الرضيع ثلاث مرات في اليوم الى أمها بالسوق لكي ترضعه رضعة الصباح، رضعة النهار، ورضعة الغداء، وتحرص كلتومة أشد الحرص بألا تفّوت على إبنها الصغير رضعة واحدة حتى لا يمرض مرض الصعّيد، ويموت. لأن منتصر كان نزقاً شقياً و هبّاش، فما كانت كلتومة ترغب في ابقاءه معها في السوق.

صرخت فيها..

- يا بت.. يا عزيزة..

إلتفتت الي بسرعة رشقتني بنظرة عابرة وجدت في سعيها الي حيث تشاء، ولكني ومن خلال لمحتي الخاطفة لوجهها والتي لم تتعد الثلاثة ثوانٍ، رأيت بؤساً وألماً مكثفاً متقنطراً على وجهها الصغير الأملس، بؤساً لا يمكن اخفاؤه أو احتماله لدرجة أنني تيقنت في نفسي أنه لو قسّمنا هذا الحزن والبؤس على كل مشردي العالم لما وسعوه، وفي نظرتها السريعة كانت أسئلة – أيضاً – غامضة ومبهمة ومحيرة في نفس الوقت، جريت وراءها صارخاً:

- يا بنت....

أنا وأصدقائي من ابناء أعيان البلدة ومثقفيها، نفضل أن نسكر من عَرقِي بلح كلتومة وفي بيتها الصغير في كمبُو كديِس فهي امرأة أمينة صديقة حيث إنها لا تسرقنا – كما تفعل الحبشيات وكثير من بائعات العرقي – آخذة منا ثمن عَرقِي لم نشربه، عندما نثمل وتلعب الخمرة بعقولنا الصفراء – أو تغش العرقي بالسبرتو أو الماء أو غير ذلك من فنون السرقة.

" إنني لا أُطعم أبنائي الحرام ".

كما أنها كانت دائماً حافظة لأسرارنا وخبائث فضائحنا " أنا عن نفسي عندما أسكر أفقد مع وعيي وقاري واحترامي وأصبح حيواناً مثقفاً لا أكثر فقد أتبول في ملابسي وأتقيأ علي صدري، وإذا لم يحدث هذا أفشيت كل أسراري الأسرية وتحدثت عن أبي – ضابط المجلس – وقلت علانية ما يعرفه الناس عنه، وما لا يعرفونه بل أفشيت ما أعرف من خططه المستقبلية في سرقة التموين والجازولين.. الى آخر مآسي يومي وأسرتي.. " فكانت كلثومة – والحق يقال – تسمع بإهتمام ولكنهها لا تقول شيئاً، وكنا جميعاً نحترمها ونقدرها مثل أمهاتنا وبالتالي "عزيزة" كانت لنا أختاً صغرى..

- يا بنت.... قفي..

أمسكت بكمها القصير.. ودون أن تنظر الي قالت بصوت مبحوح تخالطه صرخات " منتصر " الحامضة المتدفقة تباعاً:

- أمي..

- أمي قبضوا عليها..

- "...... "

إذاً فهمت كل شئ وشعرت بأن الدينا أظلمت فجأة أمام عيني وأن شعري تحول الى دبابيس مسمومة توخزني في جلد رأسي،ولم استطع ان اقول او افعل لها شيئاً سوى زلق كفي من على كتفها الصغير المتعب، في برود تاركاً إياها تمضي لتذوب في بحر مآسيها ومحنتها و"منتصر" مبللا صدرها بلعابه اللزّج المُلبِّنْ يصليها بصرخاته وندائه المتواصل – بلثغته الحلوة الممتعة – رغم مآساة الموقف – لأمه " اتوما ".

كثيراً ما كنت اخجل من نفسي عندما اجدني عاجزاً امام موقف ما، فاذا حدث ذلك بالامس لذهبت الى جلال الجميل القاضي ودار بيننا الحوار التالي:

- صدر القرار منك ؟

- كنت مجبراً … فانت تعرف لا شئ بأيدينا تماما ..

- ولماذا كلتومة … فهي تعول اطفالاً وزوجها مقتول في الجنوب منذ سنوات.

- لم يكن الامر بشأن كلتومة وحدها..

ولكن حظها.. فلابد –كما تعرف – ان يكون هنالك ضحايا قالوا ان الوالي في زيارة جاسوسيّة في كل مكان. ويجب ان يعرف ان الناس هنا تعمل، تحارب الفساد الى آخر الاوهام كما ان كلتوم كانت تعلم بقرار التفتيش، لقد أخبرها "احمد صالح" ..

- ولكنهم وجدوا عندها جالوناً من العرقي وثلاث زجاجات مليئة بعرقي البلح.

- هذا تلفيق من الشرطة، فقد كانوا يخبئون هذه الأشياء في عربتهم.. فهم غالباً لا يجدون شيئاً عند هؤلاء النسوة..

- وما العمل ؟

- كالعادة نخفف الحكم ما امكن وبدلاً من السجن نضع الغرامة وصديقاتها يقمن بمساعدتها في الدفع كما يفعلن دائماً..

- هذا ما كان يحدث إذا وقعت احدى " زبوناتنا " في قفص الشرطة، ولكن أين اليوم " جلال الجميل " ؟!

- فإن القاضي الجديد لا يشرب العرقي ولكن – فقط – الويسكي " والانشا* " ويدعى مخالفة الله والتقوي، وبالتالي يصعب الوصول إليه حتى الآن على الأقل.

جسدها النحيل المتعب يرقد على الكنبة في وسط سوق السبت وقد أهالوا عليه صفيحة من المياه ما تزال تقطر من جلبابها القطني الرخيص الى نهاية الجلد، ولو أنها لا تحفل بكتل البشر التي تحيط بها " مشفقة او شامتة " إلا أنها كانت تحاول إخفاء وجهها ما أمكن بين ساعديها وتحاول بقدر المستطاع وبجدية الا تصدر منها تنهيدة، آهة، صرخة ألم أو مجرد زفير مندفع قد يُخّيل للشرطيين القضاة او الجلاد، جمهور المتفرجين أنه توجع من وقع سوط " العنج* " الأسود المشرب بالقطران والذي يصلي ظهرها مشقاً مبرحاً ممزقاً لحميات فيه عجفاء بائسة.

وعندما استطعت أن أجد لنفسي مكاناً أشاهد من خلاله ما يحدث كان الشاويش السمين يصرخ بغلظه..

- ثمانية وثلاثين إإيه.. هوب..

- تسعة وثلاثين.. إييه.. هوب..

- أربعون.. إيييه.. آآه.. تماماً مولانا... أربعون جلدة..

قال القاضي وعلى فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولاً من خلالها ان يكون تقياً، عادلاً، محبوباً وحاسماً في نفس الوقت..

- هيا قومي.. استغفري ربك الله واعلني توبتك.. توبة نصوحة امام الجميع..

- نظرت إليه – كلتومة – نظرة فاحصة، عميقة – أحسست انها معتصرة من خلايا كبدها – ثم بصقت على الأرض بصاقاً دامياً مرّاً – واقسم ان جميع المتفرجين: الإعراب ذوو الجلاليب المسودة من الأوساخ والتي تفوح منها رائحة وَبر الجِّمال والحمِّير،وقطرانها وروثها بسياطهم وسيوفهم. الشماسة أبناء الشوارع المتشردين.

أصحاب المتاجر – أغلقوا دكاكينهم مضحين بقدر من المبيعات كبير في سبيل ان يحضروا المحاكمة – الكلاب الضآلة الحذّرة المختبئة خلف العشب متجنبة أعين الناس، وغير الضآلة أيضاً.

أسراب الحدأة والغربان والتي تضع حلقة في السماء، ناعقة. " المثقفاتية " مثلي – والذين ليس بإمكانهم فعل شيئ غير التعليق الذكي الصائب المُبرر غير المقنع لغير شريحتهم والمثير للضحك والسخرية من نساء " الكسرة "، العرقي، الشاي وغيرهم من الكادحات.

أعضاء المحكمة " المتفلقصين " كمُخصيىّ القرون الوسطى، صديقاتها البائسات، موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون " معها او مع السلطة " الجميع.. الجميع بدون فرز ".. اقسم انهم جميعاً أحسوا بمرارة هذا البصاق وكأنه مقذوفاً في عمق حلوقهم مراً كنقع الحنظّل.

ودون أن تحرك فوهتا عيناها عن وجهه انتعلت حذاءها البلاستيكي القديم وشقت طريقها عبر الجمع مصوبة وجهها المجهد شطر بيتها – ساعية بخطي ثابتة سريعة – رغم ما بها من إرهاق – فكان عليها أن تسرع حتى لا تُفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.