السبت، 5 سبتمبر 2009

أحمد الملك

الشيطان يحمل بطاقة هوية مزورة
أحمد الملك
رأيته فجأة يوم السوق، بين أكوام النسوة اللائي يعرضن للبيع ديوكاً هرمة خالية من الريش، وبيض الدجاج الذي يفقس الكتاكيت أثناء عرضه بسبب شدة القيظ، وبين الباعة الجوالة الذين جفت أصواتهم بسبب الصراخ على بضائعهم الرخيصة من عقود الخرز الملون وأواني البلاستيك، ورغم أن مظهره كان لافتاً للنظر بسبب ملابسه الغريبة وعينيه الشبيهتين بعيني صقر، إلا أن أحداً لم يكترث له، وهو يعبر وسط فوضى العفونة الناجمة عن أسماك الكور التي يضطر الباعة إلىكسر أعناقها حتى لاتقفز من طاولات البيع أثناء عرضها، ووسط فوضي الإرتباك الذي ساد بين الباعة لحظة مرور رجال الضرائب لطرد الباعة الذين لم يسددوا ما عليهم من رسوم، كان يمضي بهدوء مترفعاً عن هذه المصائب البشرية ساحباً خلفه شمساً صغيرة يعرضها للبيع بسعر التكلفة كما كان يعلن بصوت جاف مثل فحيح أفعى، ورغم أنه كان متخفياً بدهاء في ملابس شيخ ملتح، إلا أنني تعرفت عليه ومنذ الوهلة الأولى، ومن على البعد راقبته وهو يسحب خلفه شمسه الصغيرة منادياً عليها بلهجة غجري بأنه يمكن استخدامها للإضاءة ليلاً وأنها مضمونة لمدة عام، وكان يحمل في يده حزمة من الأوراق القذرة بسبب بصمات الأصابع، مربوطة بإحكام بشريطٍ من قماشٍ أزرق فيها ما يثبت كما كان يعلن ملوحاً بها، أنه استولى على هذه الشمس بطرق مشروعة، كان يرفع صوته قائلاً:
- لا كسوف بعد اليوم.
إلا أنه اضطر إلى تغيير ندائه بعد قليل، حينما اكتشف أن الناس الذين تكاثروا من حوله، لم يكونوا يرغبون في شراء شمسه الحقيره، التي يسحبها من خلفه مثل قرد بحبل من الحلفاء، بل ليستفسروا عن معنى كلمة كسوف، لأن الجيل الجديد الموجود في القرية لم يتسن له مطلقاً رؤية كسوف للشمس، فيما عدا مهرجان الكسوف المزيف الذي أقيم قبل سنوات من أجل تنصيب الملكة نورا ملكة على ايام الأربعاء، حتى أن كلمة كسوف ارتبطت في أذهان الجيل الجديد بمشهد فناة صغيرة فائقة الجمال ، زعمت الشائعات أن العميان كانوا يبصرونها حينما تعبر من أمامهم في قيظ الظهيرة فيما هم يقبعون بين أشجار الطندب، في انتظار لمسة شفاء نهائي على يد الملكة نورا حفيدة الملك كومالي الذي صعد إلى الأمجاد السماوية على ظهر ثور.
وفي النهاية حينما أيقن صعوبة بيع شمسه بخدعة الإضاءة الليلية، وتلمس الفتور في الهواء من حوله، وتعرف من بريق العيون أن الذين تقاطروا من حوله تجمعوا بدافع التسلية وأن أحداً لم يأخذ خدعته الضوئية مأخذ الجد، بدأ ينسب لها مقدرات علاجية، وفي البداية حاول أن ينسب لها بذكاء مقدرة مجربة على علاج القلق الناجم عن ضغوط إقتصادية، ولم تجذب دعواه الجديدة سوى بعض مديني البنوك وبعض المسنين الذين جذبهم إعلان أن النوم بضعة أشهر تحت هذه الشمس الخاصة يؤدي إلى شفاء مرضى الروماتيزم ويخفف من حدة حزن الشيخوخة، تقدم عجوز مترنح كان واضحاً من هيئته أنه لم يكن واثقاً من أن الإتجاه الذي يسلكه سيوصله إلى أي هدف، كان واضحاً أنه يسير لاعلى هدى ضوء الذاكرة بل على هدى ومضات النسيان، وفجأة حينما أصبح قريباً من نطاق الشمس الصغيرة المعروضة للبيع، توقف، ولاحظ الجميع أنه استعاد وعياً مشوشاً، وأنه لاحظ بسرعة أنه كان يسير دون خطة محددة وفجأة أصلح من وضع ثيابه واعتدل وبدأ يلقي خطبة حماسية عرف الجميع من مقاطعها أنها الكلمة الأخيرة التي القاها في الجمعية التأسيسية في العهد الديمقراطي الأخير، وفجأة استعاد العجوز مقدرته على النسيان ولاحظ الجميع أنه تشبث بها بقوة حتى أنه ركض ليخلص نفسه من نطاق أسر الذكريات.
تقدم ثلاثة من مديني البنوك كانوا ينظرون خلفهم بذعر خوفاً من هجوم مفاجئ من رجال الشرطة، ولحظة وقوفهم في نطاق الشمس المزيفة، بدا واضحاً عليهم استعادتهم لمبادرة فرح جماعي حتى انهم انخرطوا في الغناء ولكن فجأة كبسهم رجال الشرطة فانطلقوا يركضون وهم يغنون، ولم يكن هناك فرق سوى أنهم نسوا لماذا يطاردهم رجال الشرطة.
إلا أن أكاذيب الشيخ الغريب لم تثمر إلاّ حينما أعلن إمكانية إجراء اتصال مع الموتى بوساطة الشمس الصغيرة، عند ذلك تقاطرت مجموعة ضخمة من الأرامل اللائي فقدن أزواجهن نتيجة كوارث وطنية، تراوحت بين انقلابات عسكرية فاشلة، أو حروب أهلية، إضافة لأعداد من النسوة اللائي جئن بملابس الانتظار السوداء التي بدأت تتهرأ من فرط الصبر طوال سنوات في انتظار عودة المفقودين، قام الغريب بإجراء تجربة إقناع جماعية تحت شجرة جميز لقاء بضعة جنيهات جمعتها النسوة، حيث تحلقت النسوة في دائرة مغلقة حول الشمس الصغيرة في انتظار تحقق هذا الإتصال اللاسلكي غير المكلف، وبعد دقائق طويلة من الصمت الكثيف، قام خلالها الشيخ الغريب بقراءة تعاويذ سرية، بدأت تتضح مقدمات اتصال متقطع مشوش، وتجلت بوضوح خبرته الضئيلة في ضبط الصوت، فقد كان الصوت بعيداً وتتخلله صفافير أعاصير الموت، كما أدى عدم خبرته إلى نشوء خلط تقني في الأحزان، فرغم أن الأرملة فاطمة بت الزين كانت قد طلبت بأن تتحادث مع زوجها الميت منذ ستة أعوام بعد اعدامه رمياً بالرصاص إثر اتهامه في محاولة إنقلابية ضد الحكومة العسكرية، كانت الأرملة فاطمة بت الزين تتحرق شوقاً لإبلاغه بأنها ظلت وفية لعناده، حيث كان الزوج الأكثر عناداً في الدنيا، يحضر إلى البيت يوميا الأشياء التي لاتطلبها ويتجاهل تماماً الأشياء التي تطلب منه إحضارها، حتى أنها حينما تعودت على نزواته العكسية أصبحت تتجاهل الأشياء التي تحتاج فتقول له: نحتاج إلى لحم وخضروات، لتعرف أنه سيعود في آخر النهار وهو يتأبط لفافة تكتشف داخلها الحذاء المطاطي الذي تحتاج اليه. كانت الأرملة فاطمة تتحرق شوقاً لتبلغ زوجها أنها ظلت وفية لعناده وأنها لم تتزوج من بعده، مقررة أن تكذب عليه حتى في الموت لترفع من روحه المعنوية، بأن سبعة رجال تقدموا لها ولكنها رفضتهم جميعاً، رغم أن وفاءها كان إجبارياً، لأن أحداً منذ وفاة زوجها لم يجرؤ على الإقتراب منها، بسبب انتشار شائعة أن كل من يتزوج منها سوف ينتقل للدار الآخرة خلال أقل من عامين، لم تجد أحداً يجرؤ على مشاركتها غنيمة الموت، فركنت إلى وفاء متقطع، تخللت طقوسه مشاغلها من أجل الحياة وتربية ابنها الوحيد، كانت الأرملة فاطمة تتحرق شوقاً للتحادث مع زوجها إلا أن الشيخ الغريب قام بتوصيلها بوالدها الذي مات بسبب المجاعة غير المعلنة التي ضربت غرب الوطن أوائل عقد الثمانينات. وفي حين طلبت العجوز ملك الدار الإتصال مع ابنها الذي قتل في الحرب الأهلية، قام بتوصيلها بشخص غامض، زعم أنه كان زوجها الأول المتوفى في كاجوكاجي إثر إصابته بفيروس ايبولا أثناء عبوره نهر الزامبيزي مع قافلة من السواح البلجيكيين، إلا أن معلوماته كانت مشوشة، وبدا للعجوز ان زوجها الذي تبخرت صورته من ذاكرتها إلى الأبد، قد واصل في الموت نفس عدم انضباطه السابق في الحياة، لأنها عرفت من عمق صوته ومن رنة أحزانه أنه كان لايزال مخموراً، وفي حين طلبت الحاجة فاطمة بت فضل الله إجراء اتصال مع زوجها المفقود من سنوات، لالتطمئن عليه في الموت، ولكن لتحاول عن طريق إيحاء صوته، أن تستجمع خيوط صورته التالفة في ذاكرتها، حيث لم يتبق لها سوى صورة جانبية باهتة اقتطعتها من إحدى الصحف القديمة وفيها يظهر وهو يتحدث في الجمعية التأسيسية، وحتى تتأكد من أنه موجود بالفعل في الموت، لإبطال دعاوى العرافات اللائي زعمن لها بأنه موجود في الحياة، وانه سيظهر في اللحظات الأقل توقعاً، لكن الشيخ الغريب لم يوفق في توصيلها بزوجها رغم أنه أبقى خط الإتصال مفتوحاً لعدة دقائق ريثما يتم العثور على زوجها، وفي النهاية أوصلها بأحد أقربائها الذي توفي بسبب التعذيب في معتقلٍ سري.
وبسبب صدمة الأحزان الخطأ، تجمعت النسوة حوله،وحاولن الفتك به، رغم أنه حاول أن يشرح لهن أنه ليس مسؤولاً وأن الخلل يكمن في نقطة الإتصال البدائية الوحيدة في العالم الآخر، متوسلاً إعطاءه فرصة أخرى لضبط الأحزان. وهنا أبرزت له هويتي: رجل شرطة، وطلبت منه إبراز هويته، أخرج من جيب عباءته بطاقة هوية مزورة تفيد بأنه تاجر متجول مولود في بابنوسة، إلا أنني قمت بتفتيشه بدقة حتى عثرت على بطاقة هويته الحقيقية ملفوفة بإحكام في قطعة من الجلد، وأكدت بطاقته الأصلية شكوكي، كانت تحمل رقم تسلسله الشيطاني وبها صورته الأصلية، ويظهر فيها مزوداً بقرنين صغيرين مثل ذبابة، وشعر رأسه يبدو نافراً كأنه جذب بواسطة مغناطيس. أبلغته في البداية بالتهم البشرية المنسوبة له، وهي محاولة النهب والإحتيال، وانتحال هوية مزورة، كذلك واجهته بتهمة دخول الوطن والإقامة فيه بصورة غير شرعية وممارسته عملاً تجارياً دون الحصول على رخصة لذلك، كذلك واجهته بالتهمة الأسوأ: التهرب الضريبي، ورغم صدمةالمفاجأة إلا أنه استدرك نفسه سريعاً وأبرز رخصة تجارية سارية المفعول، وأبرز شهادة تثبت خلو طرفه من الضرائب.
سحبته خلقي إلى مركز الشرطة، ولحين انتهاء مشكلة توجيه تَهم بشرية إلى شيطان قررت احتجازه، وبعد مضي وقت قصير من اعتقاله، بدأ يستغيث فقد تحرش به بعض المساجين وضربوه وحاولوا تحطيم الشمس المزيفة التي كانت تسبب لهم أرقاً نهارياً بسبب مقدرتها على خلط أعراض الموت مع أعراض الحياة، حتى أن أحد المساجين أشعل النار في قدمه ليتأكد من أنه كان لايزال عل قيد الحياة، نقلته إلى زنزانة منفصلة وتسلمنا منه شمسه الصغيرة وحررنا له إيصالاً بتسلّمها، ثم رفعت إلىرؤسائي تقريراً وافياً بالحادثة، ولضمان عدم تسرب معلومات حول انتهاك إضافي لحقوق الشيطان، أشرفت بنفسي طوال ايام إطعامه، وأضفت إلى طعامه بعض العظام القديمة، لأني قرأت في أحد الكتب أنها الوجبة المفضلة للشيطان، إلا أنني لاحظت في الأيام الأخيرة أن حالته النفسية كانت تسوء باضطراد وأنه أصبح يركن إلى الصمت فساورني الإعتقاد أنه سوء حالته النفسي كان ناجماً عن اكتسابه لصفات بشرية، وأنه لم يعد يطيق العزلة، فأحضرت له بعض الصحف، طالع عناوينها الرئيسية بعدم اكتراث في البداية، ثم نبذها جانباً، لكنني حينما عدت في اليوم التالي وجدته غارقاً وقد زايله القلق في مجهود إحصائي لحصر عدد موتى الصحف اليومية، حيث وجدت أنه توصل إلى نتيجة تفوّق عدد الموتى على عدد الأحياء في الصحف اليومية، كذلك وجدته منهمكاً في إحصاء أحكام الطلاق المعلنة في الصحف اليومية والتي استنتج منها بعد حسابات مطولة استعان فيها بأرقام من ذاكرته الشيطانية أن الوطن في حالة جنون طلاق جماعي.
بعد فراغه من إحصاء المصائب اليومية في الصحف، والتي استغرقت وقتاً طويلاً عاد مرة أخرى للذبول، وبدأت حالته النفسية تسوء مرةً أخرى، فاكتشفت للمرة الأولى أن اكتشافه للمشاكل، كان وقوده الأفضل للتماثل للشفاء، فتذكرت يوم شاهدته للمرة الولى طليقاً وكيف كان يبدو سعيداً وهو يعبر نطاق نتانة أسماك الكور المتصاعدة في قلب السوق بين باعة الخضروات الفزعين من هجوم محتمل لرجال الضرائب، والأرامل اللائي يقطعن ايام الإنتظار الممل، في بيع اشياء صغيرة مستحدثة من الملل، يواجهن بثمنها جزءاً من نفقات الحياة الباهظة، وحيث رجال الشرطة يطاردون المزارعين الذين لم يستطيعوا الوفاء بالتزاماتهم تجاه البنوك بسبب كساد المحصولات الزراعية، في اليوم التالي اقتحمت زنزانته بأعداد إضافية من الصحف، حدست أنها ستزوده بوقود المشاكل لعدة أيام، لكنني اكتشفت بعد قليل، وبعد أن شرعت في التحاور معه، بأنه لم يكن موجوداً، واكتشفت أنه ترك في المكان رائحة مميزة تعطي إحساساً خاطئاً بأنه لايزال موجوداً، كان قد هرب بعد أن قام بتحطيم نافذة التهوية، واكتشفنا أنه استعاد قبل رحيله، شكله الشيطاني حينما عثرنا على شعيرات فولاذية متناثرة في المكان، وبقايا أظافر سوداء، وبقايا دم أسود، ورغم أنني لاحظت أن صورته تحللت بسرعة من ذاكرتي بحيث لم يتبق منها سوى نتف باهتة من صورة شيخ ملتح يعرض للبيع شمساً صغيرة بسعر التكلفة كما كان يعلن، إلا أن آثاره في المكان ظلت قوية في صورة أرق نهاري ناجم عن خلط أعراض الموت مع الحياة، حتى أن كل الأشخاص الذين مروا بالمكان كانوا يعانون حنيناً خارقاً لا للحياة، بل للموت، بسبب شعور خارق بتشابه أعراض الموت مع أعراض الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق