السبت، 5 سبتمبر 2009

عثمان شنقر

بعد توقف اللوري مباشرة , أما المقهى الصحراوي ظهرا المراة العجفاء ذات الرثاثة المحزونة من مكان مجهول على وجهها يرتسم تعابير مشفق من اصرار عابري القرى الصحراوية في طريقهم إلي ليبيا او إفريقيا الوسطى على ارتياد هذا الطريق المحفوف بفوهات بنادق النهابين .
ترى لواريهم مشحونة بمختلف الاصناف من جوالات الخيش وبضائع في صناديق محزومة بحديد البال كلها ترقد في بطن اللوري . في استقرار مطمئن مع حفنة من الركاب الغامرين بكل شي .
استطاعت المرأة بخبرة بصرها أن تقدر المسافة التي قطعها اللوري بواسطة الغبار العالق بسطحه المدهون وبواسطة النباتات المشتبكة في الصواميل وحديدة الماكينة التي ترفع الساعد غطاءها الآن وهو مهمك في انتزاع الاعشاب الجافة من بن طيات الحديد , باعصاب مرتجفة .
تمكنت المرأة من التعرف على نباتات تلك المناطق التي قطعها اللوري وعرفت فيها اماكن كثيرة في مختلف مراحل حياتها العديدة : أثناء الرعي بالبهائم أيام لشباب حين كانوا يتوغلون كثيراً بحثاً عن العشب والماء ومرات أخرى حين سافرت إلي المدينة عن طريق بص متهالك واخذت منهم الرصحلة أيام كثيرة في الطريق ومرة حين وجدت نفسها في حملة انتخابية مساندة لمرشح مغمور عن دائرتهم وفوجئت بان الجميع لا يعرفون ذلك المرشح كما تعرفت علي بعض النباتات التي تنبت حذاء النيل . تلك النباتات التي بعثت فيها ذكرى حمى جسد غابرة تمكن فيها احدهم من انتزاع الكهرمانة النفسية .
اللوري يقف أمام المقهى مغبر السطح يصدر صوتاً خفيفاً مثل الانين والركاب نزلوا متعجلين في عيونهم ذلك الالتماع الحيواني للخوف من القادم .
جلب لهم صاحب المطعم وصبيانه العناقريب العارية للجلوس والاستجمام مرحبا بهم في عبارات متصلة تالياً عليهم قائمة طويلة من المأكولات والمشروبات الساخنة والباردة . صبيان المقهى اعدوا الاباريق والمصلى واكواب الماء للمسافرين سائق اللوري اخبر صاحب المقهى أن عجلتهم في السفر وانهم لم يمكثوا طويلاً . سأله صاحب المقهى عن وجهتهم فاخبره السائق واردف بتوتر ظهر سؤالا عن الطريق ومدى خطورته .
المرأة كانت واقفة بعيدا تراقب السحنات المختلفة لركاب اللوري . بعد قليل انضمت إليها إمراتيين في نفس عمرها . وقفن يراقبن ويهمسن على شي ما . صاحب اللوري الذي خبر هذا الطريق لفت نظره منظر النسوة المتهامسات فحمل ابريقه كأنه ذاهب إلي الخلاء ولما فهم ما يدور بينهن اشار إلي احداهن إشارة ذات معنى فتبعته من بعيد .
لما تاكد المساعد من غياب السائق دخل الحلة التي يعرفها من قبل . حسب النقود التي في جيبه . امراة كان قد تعرف عليها من قبل . اعتاد كلما جاء يذهب إليها . تبيعة الشاب والمتعة .
عندما فرغ الركاب من اداء صلاتهم جماعة شالوا الدعاء طويلا بان يكون الطريق آمن وان يعودوا إلي ذويهم سالمين غانمين آمين .
تلك المرأة ذات الرثاثة المحزنة , عادت مرة أخرى إلي المقهى بمظهر اقل رثاثة وحزن . بل بدأ عليها بدل الاشفاق – اللطف والبشاشة . تود وجهها بما يشبه الخجل والحياء . جاءت بعد أن جاء السائق وجلس على عنقريب منفرد . اشار إليها بالاقتراب فاقتربت وجلست جواره لاحتساء شاي المساء . كانت البشاشة تقطر من ملامحها الدقيقة . نفضت بعض التراب العالق بثوبها . حملت الذكري إلي عشرين سنة إلي الوراء يوم أن نفضت تراب البحر من فستانها , اثر العراك غير المتكافئ مع الرجل , حيث تمكن الرجل من نزع الكهرمانة النفسية عنوة . ثم نزلت إلي البحر للاستحمام بدون عويل او بكاء . رأت الرجل وهي تدامس الماء يلملم اطراف ثيابه ويختفي امام ناظريها في الافق كأنما جاء من المجهول . إلي اليوم لم تعرف له ملامح ولا تجد له شبه . زان كان سائق اللوري اقرب شبهاً به .
رأي السائق المساعد يخطر امامه سعيداً , حاملا الزيت المستعمل ليدفقه في الخلاء فابتسم وغبطة على ما قام به عرف أن المساعد دخل الحلة وخرج منها سعيد بقدر وافر والمرأة التي صحبته إلي الخلاء تجلس جواره على العنقريب ولم تزال اثار الرمال التي افترشاها على ثيابها ودع السائق المرأة وعصر إليها مبلغ من المال في يدها . تمانعت قليلاً ثم قبلت النقود على مضض لمل الح عليها .
الركاب المتعجلون علي السفر كانوا قد انتهوا من صلاتهم وادعيتهم منذ زمن طويل . تناولوا اكواب الشاي الساخنة على ضؤ الرتينة ولما قاموا يستعجلون السائق كان اللوري قد سبقهم في لحظات قاموا برفع حقائبهم على ظهر اللوري وركبوا جميعاً وودعوا من بقى بالمقهى .
تحرك اللوري أولا في بطء ثقيل ولما استقام الطريق ذادت سرعته . الجميع كانوا في خوف رهيب من القادم . الطريق الذي كانت تعرفه المراة العجفاء ذات الرثاثة المحزونة كان مشرعاً على بنادق النهابين سريعة الطلقات وقفت المرأة تنظر بحزن شفيف إلي الغبار الذي خلفه اللوري . و تسألت : كم مرة وقفت هذه الوقفة تودع الاعزاء الذين يركبون لواري الغبار!؟ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق